رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصينيون المحدثون: أفكار وتأملات

لعب «الحزب الشيوعى الصينى» دور حجر الأساس أو «عامود الخيمة»، فى بناء الصين الحديثة: تخطيطًا، وقيادة، ومراجعة، وتقييمًا، وتوجيهًا.

وقد تكوّن هذا الحزب العتيد، الذى يعد الآن الحزب الأكبر فى العالم، والحزب الشيوعى الأكبر فى التاريخ، فى مجريات الصراع الحضارى ضد سطوة الإقطاع، والحكم الاستبدادى التقليدى، وفى مواجهة هيمنة ونهب الدول الاستعمارية الآسيوية والغربية، وتأسس على يد مجموعة من المناضلين المتأثرين بالفكر الماركسى، برز منهم الشاب الذى قاده فيما بعد، وحكم «الصين الجديدة» حتى وفاته: الزعيم «ماو تسى تونج». أعلن عن ميلاد هذا الحزب عام ١٩٢١، أى مضى على تأسيسه قرن وبضع سنوات، وذلك بعد نحو أربع سنوات من نشوب «الثورة الاشتراكية الكبرى» التى تفجرت فى روسيا القيصرية عام ١٩١٧، بقيادة «فلاديمير إيليتش لينين»، وتمخض عنها ميلاد أول دولة اشتراكية فى التاريخ.

وقد ارتبط «الحزب» منذ مولده ارتباطًا عضويًا بطبقة الفلاحين الذين كانوا يمثلون الغالبية العظمى من جموع الصينيين البؤساء، يتضورون جوعًا، ويقضون أيام عمرهم البائس تحت وطأة الفقر والمجاعات والأوبئة، وشتى مظاهر وأنواع الاضطهادات والاستغلال والإذلال، وتبنى قضاياهم، وأصبح- بمرور الوقت- الصوت الأساسى المعبر عن آمالهم ومطامحهم الإنسانية المشروعة، فارتبطوا به، وخصوصًا حينما نجح الجيش الشيوعى «الأحمر»، أو «جيش التحرير الشعبى»، فى تحريرهم من العبودية والمهانة، والتردى المعيشى وبؤس الحياة، وأعاد لهم قيمتهم المسلوبة ورد اعتبارهم المفقود فى «المجتمع الجديد» بوجودهم فى «المناطق المحررة» كبشر أسوياء مكتملى الحقوق والأهلية.

وقد أدخل الشيوعيون الصينيون أول «تعديل» على النظرية الماركسية نحو ما صار يطلق عليه وصف «صيننة الماركسية»، فى هذا الشأن، بالافتراق عن المنظور الماركسى التقليدى الكلاسيكى، الذى يعلى من دور وشأن الطبقة العاملة الكادحة «البروليتاريا»، باعتبارها الطبقة الثورية الأساسية المعول عليها فى إنجاز عملية الثورة، واتجهوا إلى تنظيم صفوف الفلاحين، الذين يمثلون الأغلبية العظمى من أبناء الشعب، ونجحوا فى كسب ثقتهم، إلى أن تم لهم تحقيق النصر على الأعداء: الخارجيين «وآخرهم الاحتلال اليابانى فى الثلاثينيات»، والداخليين «بقيادة حزب الكومنتانج» الذى فر بقادته إلى «تايوان»، التى يعتبرها أغلب الصينيين جزءًا لا يتجزأ من «التراب الوطنى»، وقطعة غالية من أرض «الوطن الأم»، ومن هنا يسعون بلا كلل إلى ضمها لدولة الصين الشعبية العتيدة. وقد بنى على اجتهادات «صيننة الماركسية» النهج الأساسى الحاكم لمسيرة التحديث الصينى الراهن، ولتاريخ «النمط الصينى للتحديث» أو «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، وجوهره الاستناد إلى المخزون الثقافى الموروث، والخبرة التاريخية، والظروف الموضوعية للصين، والاجتهاد فى بناء النموذج الحضارى المتناغم مع الروح الشعبية الصينية، والقيم الإنسانية العمومية. ومن المعلوم تاريخيًا أنه لدى إعلان «جمهورية الصين الشعبية» عام ١٩٤٩، كانت مصر أول من اعترف بها عربيًا وإفريقيًا فى عام ١٩٥٦. وخلال ما يقرب من قرن وربع القرن نما الحزب وتطور، وتعلم- مهتديًا بالتعليم الماركسى- ومن خلال مفهوم «التجربة والخطأ»، المزود بالحس النقدى الواضح، والمحاسبة المستمرة للذات، والارتباط العضوى بـ«الناس»، أو جماهير الشعب، واكتساب مهارة تعديل المسار إذا حاد عن الطريق، وعدم الترفيع عن البحث عن سبل أخرى لتحقيق الغايات المرجوة فيما لو تعثرت الخطى وتعذر تنفيذ الخطة، حتى أصبح «الحزب» هو الجسر الأساسى بين الحكم الشيوعى والجماهير الشعبية، والقناة الموصلة بين القيادة والقاعدة.. قناة «سالكة» ذات اتجاهين من أعلى لأسفل ومن أسفل لأعلى، متغلغلة فى أدق خلايا المجتمع، وتدار بشكل ديمقراطى مفتوح لمناقشة كل قضايا المجتمع المباشرة. وقد تسنى لى- ضمن وفد من القادة السياسيين المصريين والعرب- حضور اجتماع لمجموعة حزبية صينية قروية، نوقشت فيه مشاكل الفلاحين فى هذا الموقع: الحاجة لشق طريق جديد يختصر الجهد والوقت ويكفل سلامة مستخدميه، ولإضافة ملحق لروضة الأطفال، وتعزيز إمكانات الوحدة الصحية المحلية، ودعم عملية تسويق منتجات القرية... إلخ. وقد تم اتخاذ القرارات فور انتهاء المناقشة بأغلبية الحضور، واعتمدت من لجنة الحزب المحلية، ورفعت إلى المستوى التنظيمى الأعلى. وفى العام التالى حين عدنا إلى زيارة القرية، وجدنا الشارع الجديد وقد تم تنفيذه على أعلى مستوى، وأضيف ملحق جميل لروضة الأطفال، وحظيت الوحدة الصحية بأجهزة حديثة للأشعة والكشف على العيون، وتم افتتاح مركز لتسويق إنتاج القرية الزراعى عن طريق الإنترنت، تم تدريب شباب القرية على إدارته، وحقق مبيعات مُرضية للغاية. والثابت أن عملية تطهير دورى حاسمة، يتم الإعلان عنها بين الحين والآخر، لا يفلت فيها من العقوبات الرادعة كبير أو صغير فى أجهزة الحزب والدولة، لضمان بقائه على أعلى درجات اللياقة والكفاءة، قادرًا على الحكم والإنجاز، ورعاية مصالح القطب الصينى الكونى، الصاعد بثبات إلى صدارة قيادة العالم.

ويحدد الزعيم الصينى «شى جين بينج»، دور الحزب ومهماته الرئيسية بأنها: «العمل باجتهاد على تحسين معيشة الشعب، وتركيز الجهود الحاسمة للقضاء على الفقر، وإنجاز مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وتحقيق مواكبة زيادة دخل السكان النمو الاقتصادى عمومًا، والالتزام بين ازدياد مكافآت العمل وارتفاع إنتاجيته من حيث الأساس، ورفع مستوى تكافؤ الخدمات العامة الأساسية بشكل ملحوظ، وتطوير نظام الضمان الاجتماعى المتعدد المستويات ليصبح أكثر استكمالًا، وتحسين البيئات المعيشية لسكان الحضر والريف بوضوح». ومعلوم أن دور الحزب القيادى فى الصين هو الدور الحاسم المنوط به قيادة البلاد وتحديد اتجاهات حركة المجتمع وملامح استراتيجياته الأساسية، ويخضع لقيادته جميع مؤسسات الدولة دون استثناء واحد. وقد استطاعت الصين، بهذا الانضباط المجتمعى، وفى ظل الدور القيادى الكامل، المعترف به فعليًا: شعبيًا ورسميًا، للحزب الشيوعى الصينى، أن تقطع فى بضعة عقود ما تطلب من دول الغرب عدة قرون لإنجاز ما أنجزوه من تقدم وازدهار، ودون أن يستندوا فى تحقيق ذلك إلى استغلال المستعمرات ونهب ثروات الشعوب وإغراقها فى التخلف، كما فعلت، وما زالت تفعل، دول الغرب الكبرى والولايات المتحدة، حتى اللحظات الراهنة. وعلى الذين يقارنون بين «التجربة الصينية» الناجحة، وغيرها من التجارب، ويتوهمون إمكانية تكرارها لمجرد الإعجاب بهذا «الموديل» أو «النموذج» اللافت، أن يقرأوا بانتباه الإشارات المختصرة التى رصدناها، التى كانت من خلف نجاح الصين، وفشل المقلدين، وأهمها الدور القيادى الحاسم للحزب القائد للتجربة، والحادى على مسيرة صعوده السريعة المبهرة. 

«شنغهاى فى ١٦ يوليو ٢٠٢٣.. يتبع».

الأمين العام لـ«الحزب الاشتراكى المصرى»