رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشريفات العفيفات

مجتمعاتنا العربية لا شاغل لها إلا الحديث عن ضرورة حماية الأخلاق والفضيلة والقيم التى تربينا عليها. طوال الوقت، وفى جميع القضايا بلا استثناء، نجد الأخلاق والفضيلة والقيم التى تربينا عليها قد تم حشرها فى الموضوع. وطبعا يدخل فى الأمر الكلام عن التفكك الأسرى وضياع الشباب وانتشار العنف والتحرش والبلطجة و"الصور والمايوهات الفاضحة على الشواطئ الخاصة"، وتضاعف بشاعة الجرائم على أساس أنها مظاهر عدم الاكتراث بالأخلاق والفضيلة والقيم التى تربينا عليها، وطبعا وبالضرورة لا بد أن يدخل البعد عن الدين كمكون رئيسى لهذه الأشياء المنحلة. فمفاهيم الأخلاق والفضيلة والقيم التى تربينا عليها تجد مصادرها فى تعاليم الأديان، وليس فى مواثيق حقوق الإنسان، وليس فى إعمال العقل والمنطق، وليس فى إقرار مقاييس متكافئة للعدالة الأخلاقية بين الرجال والنساء. فلو تخالفت هذه الأشياء مع التعاليم الدينية الموروثة، فورا، دون تفكير، نقف إلى جانب التعاليم الدينية الموروثة، ونحرق مواثيق حقوق الإنسان (رغم توقيع المجتمعات عليها) ونتجاهل العقل والعدالة وازدواجية المقاييس الأخلاقية بين الجنسين لصالح الذكور خلفاء الله على الأرض، والذين هم قوامون على النساء فى كل شىء، حتى لو نفى الواقع الفعلى هذه القوامة. 

ولأن الأخلاق عندنا  فاسدة، والفضيلة هاجرت، والعدالة الأخلاقية بين النساء والرجال مجرّمة ومحرّمة وتحوم حولها شائعات الانحلال وقلة الأدب، ولأننا فعلا لا نفهم من الفضيلة إلا تغطية النساء وإهانة الفن، وشتم الرقص، ولعن المايوهات على البحر، ولأننا عايشين فى كبت أخلاقى متين موروث، وبسبب الإعلام الذكورى المرقعاتى، وبسبب إخوانية وسلفية المزاج الشعبى والرأى العام حتى بين النخب الثقافية والفكرية، ونتيجة النفاق الدينى والنفاق الأخلاقى، ونتيجة أن أعلى قيمة أخلاقية للمرأة والرجل هى غشاء البكارة- فإن حديث مجتمعاتنا لا بد أن يكون بهذه الصورة المتضخمة المخجلة التى تزداد بشاعة وتشددا وتخلفا وعدم أخلاق. 

كل القيم التى تربينا عليها أخلاقيا، كلها تدور حول وصايتنا على جسد المرأة وشكلها وغشاء بكارتها وعلاقتها بالشباب الرجال، وكيف تطيع ذكور أسرتها وعائلاتها، وتتفانى لتكون زوجة مطيعة خانعة، وأمًا مضحية، تحترق من أجل ذكر يشردها ويطردها بكلمة ويتزوج عليها كما يشاء ومتى يحلو له. أو ذكر تكرهه ولا تستطيع هى أن تطلقه كما يفعل هو (أهذه أخلاق وفضيلة؟) إلا إذا خلعته وتتنازل عن كل شىء من أجل حريتها كإنسانة (أهذه قيم عادلة؟). 

هذا هو لب أخلاقنا، وقضية إسلامنا والقيم التى نموت من أجلها لتحيا. إن ما يسمى الخيانات الزوجية والجرائم داخل الأسر الأبوية وزنا المحارم وكل أنواع الفساد هو نتيجة طبيعية لهذه المنظومة الأخلاقية غير الأخلاقية غير العادلة. إن الكذب والخيانة والتضليل والتحايل والازدواجية والتشبث بالشكل دون الجوهر، وعدم العدالة، هى سبب وجوهر الفساد الأصلى، عدم العدالة الأخلاقية هو الذى يؤسس لكل أنواع الاستهتار الأخلاقى. العدالة هى المانع الوحيد القوى الدائم لبناء حائط صد يهزم جميع درجات وأشكال الفساد، سواء فسادا علنيا أو فسادا مستترا.. قال جورج بنارد شو، 26 أغسطس 1856- 2 نوفمبر 1950: 
"الفضيلة ليست فقط ألا ترتكب الرذيلة ولكن ألا تشتهى ارتكابها".
أين نحن من هذا المعيار الصعب؟، نحن فى الفضيلة والأخلاق تحت الصفر، لا نملك من الفضيلة والأخلاق إلا الكلام المستمر والتشنج .
 لا يوجد على وجه الأرض مجتمعات تتكلم عن الأخلاق والفضيلة مثلنا. "اللى على راسه بطحة بيحسس عليها" كما يقول المثل الشعبى، وما أكبرها بطحتنا، وما أعمقها. 
 تأكيدا لكلامى هذا، هو الجرائم المنتشرة من قتل وذبح البنات والنساء بدم بارد لأن غشاء البكارة قد تم التفريط فيه. 

مشهد مضحك، ويدعو إلى الأسى فى آنٍ واحد، فى ليلة الدُخلة المباركة الشرعية يستلم العريس عروسه البكر، البتول، سعيدا لأنه "البطل المغوار" الأول الذى اخترق حصن الغشاء المقدس، والعروس تضحك من أعماقها على زوجها الساذج المخدوع المضحوك عليه بالشرف المزيف المستعاد بجراحة ترقيع غشاء البكارة.

لا أعتقد أن هناك مجتمعات مثل مجتمعاتنا مؤرقة فى نهارها وليلها بالجدل حول «عفة البنت» و«شرف المرأة» و«عذرية الفتاة»، ومنشغلة على مر عصورها وأزمنة السلف الصالح، وغير الصالح، بـ«مراقبة» ماذا تفعل المرأة بـ«النصف الأسفل» من جسدها، وإصدار الأحكام الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والدينية. 
 وفى حياتنا لا نستخدم مصطلح "عفة الرجال"، هى غير موجودة، ولا معنى لها، إلا رجل ليس له تجارب مع النساء قبل وبعد النكاح الشرعى. والرجل العفيف إذا وُجد فهو مثار للسخرية والتهكم على رجولته الخام، وذكورته المشكوك فى ميولها. ما هذا التفسخ الأخلاقى؟؟. العفة مطلوبة للنساء، والاستهتار مطلوب للرجال.

نظرة سريعة إلى حال مجتمعاتنا وتفزعنا الحقيقة، الكل يتسابق ليدلى بدلوه فى قضية شرف البنت، الكل متحفز لقول كلمته عن شرف المرأة، فالتقاعس عن ذلك يعتبر من باب الخيانة التى لا تغتفر، فشرف البنت، أو شرف المرأة، فى عرف المجتمع الذكورى هو شرف الأسرة، وبما أن الأسرة هى نواة المجتمع الأولى يكون «شرف» المرأة هو شرف المجتمع الذكورى كله بالضرورة، والكل «طواعية» مدفوعًا بنوازع الوطنية، وحماية الأخلاق، وشرف البلاد، يدخل فى «المزايدات» حول جسد المرأة وعذرية المرأة، والتى تعكس ثقافته ومصالحه ومزاجه وفكرته عن الشرف والأخلاق وعفة الجسد.
الكل يقول كلمته حول جسد المرأة وشرفها إلا المرأة نفسها، صاحبة الجسد، ومالكة الجسد.
 تظل المرأة مختبئة وراء أنواع من «الأحجبة»، سواء من القماش أو من القيم، صُنعت تاريخيًا، لكى تتلقى مبتسمة رأى الذكور فى جسدها وحكم الذكور فى أخلاقها ووصاية الذكور عن شرفها وعذريتها.

قُدّر للمرأة أن تحمل لعنة الجسد الملتصق بها، تعانى ما يحيطه من قيم الأنوثة المزيفة، وما يسببه من أوجاع شهرية وتغيرات هرمونية، ومضاعفات الحمل والولادة، وعبء تنظيم النسل، وأضرار العنف الجسدى، وابتذال العرى لترويج السلع فى المحلات والإعلانات والمهرجانات والحفلات. كل ذلك دون أن يكون لها حق ملكية هذا الجسد، أو شرعية التحدث باسمه والدفاع عنه، أو حتى مجرد الغضب مما تبثه أنظمة التسلط الذكورية.

وتتجدد دائمًا، حوادث «العذرية» و«اغتصاب» الفتيات، وكم أفزعتنى وأدهشتنى الآراء التى قيلت عن كيفية «إعادة العذرية»، وبالتالى استرجاع الشرف للفتاة المغتصبة، حتى لا يقتلها الزوج فى ليلة الزفاف.
إن الذكر القائم بالاغتصاب هو حر تمامًا، وجسده فى مأمن، ومحاكمته متهاونة، رقيقة، متفهمة للنوازع الكامنة، والدوافع الغريزية والكبت المتراكم، وحقيقة موروثة تقول «الراجل ميعيبوش إلا جيبه».   

إن شرف البنت أو شرف المرأة، ليس مكانه النصف الأسفل للجسد. إن الشرف، حتى يكون حقًا «شرفًا» أو فضيلة، أو أخلاقًا، لا بد أن تطبق معاييره على جميع البشر، دون تفرقة بين رجل وامرأة، بين غنى وفقير، بين أبيض وأسود. معايير واحدة لكل الأديان والملل والمذاهب والعقائد والأفكار. شرف الإنسان لا بد أن يكون واحدًا، ولا بد أن يكون مرتبطًا بالنصف الأعلى من الجسد، أى بالعقل والتفكير. فالعقل هو الذى يعطى الأوامر للجسد، والتفكير هو الذى يميز بين الأدب وانعدام الأدب. والتفكير مكانه النصف الأعلى من الجسد وليس أسفله.

شرف الإنسان «رجلًا أو امرأة» هو قدرته على الاستقلال الاقتصادى والنفسى، هو القدرة على مواجهة العالم بما نؤمن به ونفعله، وليس إخفاءه تحت اسم «الخوف من التقاليد»، أو «إعادة العذرية»، أو «ديكور الأخلاق». الشرف هو القدرة على السباحة ضد التيار ودفع ثمن اختلافنا.
 إن شرف المرأة هو فى عقلها وشخصيتها وفلسفتها، لتغيير ذاتها من كيان تابع مقهور إلى كيان حر مستقل. شرف المرأة هو رؤيتها النقدية لمجتمعها لتغييره إلى الأشجع والأعدل والأجمل والأصدق.
 وأول بداية للشرف أن يصنع الإنسان، امرأة كان أو رجلًا، معنى شرفه باختياراته العقلية المستقلة عن الوصاية.
 النساء الشريفات العفيفات لا يرقعن غشاء البكارة، ولكن يفضحن الفساد والانحطاط فى مفهوم الشرف والعفة. 
 النساء الشريفات العفيفات يملكن أجسادهن، ولا يقبلن التفرقة بين شرف المرأة وشرف الرجل.  
-------------------------------------------------------------
من بستان قصائدى 
------------------------- 
لا تستطيع أن تفتح قلبى 
متى تهوى وتريد
كأننى نافذة 
أو باب شقتك 
أو صندوق بريد 
لقلبى كلمة سر
أغيرها كل يوم 
ثم أنساها 
هذا ما لا تدركه 
وهذا هو بيت القصيد