رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قلبه «طيارة ورق».. علاء عبدالخالق يغادر الحدود

منذ ثلاث سنوات هاتفنى النجم محمد محيى مبتهجًا.. وقبل أن أسأله عن أسباب كل هذه البهجة التى تطل من صوته، سألنى: «عندك غنوة لعلاء عبدالخالق».. استغربت كل هذا الفرح القادم من الناحية الأخرى.. محيى يغيب بالشهور.. وبالسنوات.. ثم يعود ليحدثك وكأنما كنتما بالأمس معًا.. هذا هو العادى بتاعه.. لكن لماذا يبحث عن أغنية لعلاء؟

أعرف أنهما صديقان.. وأنه سبق ومنحه أحد ألحانه.. ومحيى يحب التلحين كما يحب الغناء.. ظننت أولًا أنه يريد تلحين أغنية جديدة لعلاء.. لكنه أكمل.. لو متلحنة ماشى!! 

هنا زادت غرابتى أنه يقوم بدور مختلف تمامًا.. لا هو مطرب ولا ملحن.. ده واحد بيدور على غنوة لصاحبه الذى غاب منذ سنوات عن عالم الغناء، وها هو يقرر العودة من جديد وكان أن اتفقنا على شكل الغنوة.. وأرسلت له لحنًا لموسيقى شاب أعجبه وأرسله لعلاء الذى أعجبته أيضًا فأرسلها لحسام حسنى الذى بدأ العمل فيها.. أعجبتنى لعبة هذا الثلاثى الذى لا يفترق.. هم ثلاثة من نجوم تسعينيات القرن الماضى.. يعيشون قصتهم دون زيف أو رياء أو عقد من أى نوع.. فيما بعد عرفت أن الموزع محمد مصطفى هو صديقهم الرابع..

هذه الصورة التى رسمها علاء عبدالخالق لنفسه على الشاشة لم تكن بعيدة أبدًا عن عالمه الحقيقى.. يقترب كثيرًا من عالم أحمد الحجار الذى لحن له فى وقت سابق واحدة من أجمل أغنياته.. كلاهما يؤمن بأن كل شىء «مكتوب».. وأنهما مجرد مراسيل عابرة فى هذه الحياة.. يعيشانها ببساطة غريبة.. تقوم الدنيا أو تقعد حولهما فيما هما يتفقان على موعد ليلى لممارسة لعبة كرة القدم.. أو «اللهو» لفترة بسيطة مع «البلياردو».

من أين جاء علاء عبدالخالق بكل هذه الوداعة التى تشبه تلك «المسافة الناعمة فى صوته الودود الذى لا يبالى بما يحدث فى هذا الكون من صراعات وفتن وحروب وكوارث»؟.

عندما فوجئت القاهرة فى أحد الأيام الأخيرة من عام ١٩٩٢ بزلزال مدمر كان هو الأول من نوعه الذى يشاهده الناس فى بلادنا رأى العين.. ذهبت وأحد الزملاء المصورين إلى خيمة كبيرة للإيواء أقامتها الحكومة فى مدينة السلام.. كنت ما زلت أعانى من صدمة المنازل التى رأيتها وقد تهدمت على ساكنيها فى الدويقة.. لم أكن قد استوعبت ما جرى بعد.. وجلست فى خيمة أحادث أهلها عن حياتهم السابقة.. وأين كانوا لحظة الزلزال وماذا بقى من أيامهم السابقة؟ لم أنتظر إجاباتهم.. لم أسمعها.. كنت أسجلها فى أوراق صفراء لا معنى لها، فيما انتشر أطفال صغار من حولى يمرحون ويتسابقون فى ذلك الفراغ الهائل وهم يغنون بأريحية وانبساط. «دارى رموشك عنى ودارى»

قبل تلك اللحظة لم أكن أنتبه لصوت علاء عبدالخالق . كنت أحسبه على جيل التسعينيات الذى وصمته الصحف بتهمة إفساد الغناء المصرى بإيقاعات مزعجة، وأسموهم من باب السخرية «الموجة الشبابية».. يومها انتبهت إلى تلك السهولة التى يغنى بها الأطفال تلك الموسيقى بلا استعراض عضلات ولا فذلكة.. اليوم أحسبنى أقول «هو صوت طفل طيب يبتسم ها هو يغادرنا».. هو صوت زمن كنا نحسبه قريبًا لكنه صار بعيدًا ونحن نحن إليه رغمًا عنا:

«بس الحنين كداب

عدى وطرف عينى»

لماذا الآن فقط أتذكر عمار الشريعى وهو يتحدث عن ثلاثى الأصدقاء.. منى عبدالغنى وحنان وعلاء عبدالخالق باعتبارهم «نوعًا» كان الغناء المصرى يحتاجه فى تلك اللحظة.. لم يزعم الرجل أنها تجربة فى الغناء السياسى وإن تضمنت أغنياتها ذلك الهم السياسى، ولم يزعم أنها تجربة مختلفة فى احتفائها بكلمات سيد حجاب وعمر بطيشة الجديدة جدًا فى تلك الأيام.. هو فقط قال إننا كنا فى حاجة إلى غناء «الجماعة».. بعد سنوات طويلة من غناء الفرد للفرد.. كنا نحتاج لغناء الجماعة للجماعة وهو أصل الغناء فى الريف والصعيد.. هو غناء يصاحبنا «ولا» يتسلطن علينا.

ربما لهذا لا يدرك كثيرون أسباب مروق دمعات من عيونهم مثلما أفعل كل مرة عندما تمر أغنية الحدود فوق سماواتنا وتتوقف قبالتى فجأة.

«وإحنا فايتين ع الحدود

مستمرين فى الصعود

اختفى النيل الجميل من تحتنا

والمدن والريح.. وأول عمرنا

وابتدى شىء ينجرح جوه

الوجوه»

لماذا نبكى كلما وصل علاء ورفاقه إلى تلك النقطة.. 

«ملنا ع الشباك نخبى

دمعة فرت مننا» 

هو الحنين لكل ما هو مصرى.. لا شك عندى فى ذلك مهما كانت الظروف.. ومهما تفرقت بنا السبل.. علاء كان واحدًا من أبناء ذلك الجيل الذى قرر أن يبحث عن «بديل».. لكن علاء نفسه لم يدّع ذلك.. هو مجرد مطرب يبحث عن «الغناء نفسه».. تعجبه تجربة محمد منير، لكنه يحب أغنيات الحجار أيضًا.

عندما توقفت فرقة الأصدقاء.. راح يبحث عن فرصة مع نفس الشركة التى تنتج أغنيات محمد منير.. تلك الشركة التى اعتمدت حميد الشاعرى موزعًا لكل أعمالها باستثناء أعمال محمد منير الذى كان على ارتباط بفرقة يحيى خليل وتوزيعاته.. لكن مسئوليها اعتذروا لعلاء الذى ظل يبحث عما يقرب من العام عن نفسه.. وعن «فرصة» جاءت من نفس المكان الذى قرر التعاقد معه ومنحه حق الاختيار فكان أن اختار مجدى نجيب وأحمد منيب.. صناع تجربة منير.. وعثمان إسماعيل وأحمد الحجار صناع تجربة «اعذرينى» للحجار و«الأحلام»، مع أغنيات أخرى أعتقد أن حميد كان سببًا فى اختيارها ليعرف الكل صوت عبدالخالق منفردًا فى تجربة مرسال التى تبعها عدد من الألبومات منحته حضورًا وطلة «يتونس بها المصريون».. ويغنيها مع غيرها من أغنيات «موسيقى الجيل».. شباب تلك الأيام.. أيام التسعينيات.

فى تلك الفترة التى عرفت فيها صوت علاء شابًا.. كان صديقى الشاعر أحمد مرزوق قد منحه واحدة من أبرز أغنياته أظنها كانت طوق النجاة الذى منح علاء خصوصية مختلفة عن أبناء ذلك الجيل..

«قلبى طيارة ورق

قلبك طيّرها لفوق

لا أنا قلبى عشق

يطلع من شوق على شوق»

هذه الطائرة الورقية ظلت تنتقل من موقع إلى آخر.. من أغنية إلى أخرى وكأنها سرب فراشات لا يشغله مما يحدث حوله أى شاغل.. «هوه فى حتة لوحده».. لكن حيرة أخرى مختلفة تجعله لا يستقر مثله مثل تلك الطائرة التى تلهو بها حبيبته..

من نجاح كبير فى ألبوماته الأولى لنجاح متوسط فيما بعد.. ثم اختفاء كامل عن الساحة بعد ألبوم «الحلم» وكأنه يريد أن يخبرنا بأنه توقف عن الأحلام «رسمى فهمى نظمى».. كما غنى مع تامر حسنى ومحمد رحيم.. ليكتفى علاء بالغناء مع أصدقائه فى جلساتهم الخاصة والحماس للعودة ثم الملل والاكتفاء بحياته الخاصة مع أسرته ليظهر منذ أيام فى فرح ابنته إلى جوار أصدقائه الذين احتفوا به وبفرحته الأكبر.. ليستسلم بعدها للمرض هذه المرة.. بعد أن قاومه كثيرًا.. مرة عندما هاجم أحباله الصوتية.. ومرة بعد أن عانى مشاكل «العيون».. استجاب هذه المرة وخان حبيبته للمرة الأولى ورحل.. تاركًا لها ولنا أغنية.

«أنا خنتك إمبارح

يا أم الحنان طارح

الشوق فى حضنى حرير

قلت أنتهى منك

وأبعد بعيد عنك

ما دمت قادر أطير

وأنا لسه قادر أطير».