رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود قرنى.. الوجيعة تستريح لأكباد الشعراء

لا أحب المستشفيات.. بينى وطرقاتها عداوة قديمة لا أعرف أسبابها بالتفصيل.. ريحة اليود والميكروكروم تحبس أنفاسى لمجرد تخيلها.. أهرب منها ومن سيرتها.. لا أذهب للعيادات إلا مضطرًا وفى اللحظات الأخيرة.. حتى الصيدليات أتحاشى المرور أمامها.. لكننى أذهب.. أخاف من الحقن.. فى أيامنا الأولى كان عم محمود الحلاق الذى يسكن نجع الدير هو الشخص الذى أخشاه فى قريتى بحالها أينما حل.. هو لا يأتى إلا للمرضى.. حقنته الطويلة ذات السن الطويل البشع تقشعر لها أوصالى لمجرد تخيلها وهى تخترق الجلد.. لم يسلم من أذاها إلا القليلون من أقرانى.. جميعنا كنا نستحم فى الترع.. وجميعنا عرف الطريق إلى حقنة البلهارسيا اللعينة.. عم محمود مات منذ زمن.. لكن الألم لم يمت. 

وبقدر كراهيتى للعلاج والمستشفيات وعالم الأطباء.. بقدر ما أحب الشعراء.. أحب صورتهم القديمة فى خيالى.. جميعهم فرسان يركبون خيولًا من ذهب ويطاردون الفراشات.. هكذا أراهم بشرًا مختلفين.. لا أعرف من أين تسللت هذه الصورة إلى روحى ولم تغادرها.. عرفت الكثيرين منهم.. واقتربت من حياتهم اليومية.. لكننى ما زلت لا أصدق أنهم بشر مثلنا يمرضون ويتوجعون ويذهبون إلى الجراحين للعبث فى قلوبهم وأكبادهم كيفما شاءوا. 

كان مجدى نجيب الذى يطارد ضل القمر ويسكن فيما بعد المغيب عند ضفة النهر هو أول شاعر أشاهده بعينى.. كنت أحفظ أشعاره وأغانيه.. ولأنه طيب بشكل غريب تخيلت أن كل الشعراء من فصيلته.. أعجبتنى تلك الرسمة التى وضعها العم مجدى فى عينى ولم تفارقنى وقررت أن تكون صورته تلك هى صورة كل الشعراء وإن كانوا غير ذلك.. عرفت الأبنودى وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم.. وحسبتهم نفس الرجل.. وعرفت طاهر البرنبالى فوجدته النصف الآخر من قلب مجدى نجيب.. ودلنى البرنبالى البديع على قلب خالد عبدالمنعم فوجدته براحًا.. كنت قد تعبت من كثرة مغادرة الشقق الضيقة التى نستأجرها ثم تطردنا من حنانها بلا رحمة ولم يكن يسعنى سوى هؤلاء الساعين إلى الشمس فى نهار القاهرة الحارق.. خالد والبرنبالى وحسن رياض.. ولم أكن أسأل وقتها من أين جاءوا بالندى؟.. وكيف يحتملون كل هذه الجبال من المحبة؟.. كيف يتسترون على كل هذا الونس فى هذه المدينة المزعجة؟.. ولم يخبرنى إبراهيم عبدالفتاح لأنه كان مشغولًا بدور طاولة مع إبراهيم داود.. وبالقرب منهم يجلس ذلك الرجل المهذب محمود قرنى لا يكلم أحدًا.

لم يخبرنى إبراهيم أين اختفى إبراهيم فهمى.. وسمير سعدى لا يعرف إلى أين يذهب العاشقون.. كل ما أعرفه أنه صنع من دمه قصصًا قصيرة وفيلمًا عن الجميلات اللاتى يسرقن قلوب المحبين ومركبًا واعده بأن يعود به إلى أسوان.. لكنه لم يخبره ولم يخبر أحدًا من الجالسين على مقهى زهرة البستان لماذا تسكن الوجيعة فى قلوب وأكباد الشعراء؟ 

طاهر البرنبالى أخبرنى بأنه يعبر النهر مرتين كل يوم.. هو لا يعرف السباحة لكنه يعيش فى النهر.. ليس بعيدًا.. هنا فى جزيرة الوراق.. وقد ترك قلبًا وبعض الأوراق وشهادة النجاح فى الإعدادية فى قريته فى كفرالشيخ.. وأنه منذ غادر تلك الغيطان يشعر بأن جرحًا تحت الرئتين يغازله، وأنه يضحك عليه بقرص من الأسبرين وقصيدة جديدة يكتبها كل يوم وينساها فى عينى مصطفى الجارحى.. وإنه ينتظر موعدًا مع حبيبته لا يعرف متى يحين.. لكنه يعرف أننا حتمًا.. طالعين لوش النشيد. 

لم أكن أعرف أنه سيذهب دون أن يخبرنى بذلك الموعد.. وأن ذلك الجرح الذى ينزف من تحت الإبطين قرب القلب لم يتوقف عن النزيف.. لكنه سكت فقط عن الصراخ.. فلم يشعر به محمد كشيك ولا رجب الصاوى ولا أى من سكان الوراق على بُعد خطوات. 

ذهبت بعدها كثيرًا إلى وسط البلد أتفحص الوجوه ولم أجده.. ولم أجد إبراهيم فهمى.. ولا خالد عبدالمنعم.. وعبدالفتاح ما زال يلعب الطاولة ويخبر حبيبته التى لا نعرفها بأن كرسى القهوة أحن من صدرها.. لم أسألهم.. ولم أسأله لكن اليد المسالمة الودودة المهذبة التى اقتربت من يدى تعرف.. محمود قرنى يعرف.. وفتحى يعرف.. ونادل المقهى الجنوبى يعرف لكنهم يتسترون على الوجيعة. 

الصحف تقول إن أمل دنقل ترك أوراقًا فى الغرفة رقم ٨ بذلك المستشفى اللعين.. لكنها لم تقل إنه أوصى بأن تسكن المحبة إلى جوار الوجيعة فى قلوب الشعراء من بعده.. ولم تقل إن خالد وطاهر وإبراهيم.. وحسن رياض.. جميعهم كذبوا علينا عندما أخبرونا بأن هذه البلاد ستبادلنا المحبة.. وبأن ذلك الأحمر فوق خدود البنات الجميلات لم يكن بعضًا من دمنا. 

سافر الأحباء من شعراء مصر الكبار.. وسافر أصدقاء الصبا أيضًا.. دون أن يكشف أحدهم عن وجيعته.. ربما كانوا ينتظرون منا أن نبادلهم الوجع من بعيد.. ربما كانوا ينتظرون من تلك البلاد التى منحوها أرواحهم وأشعارهم أن تدثرهم قبل أن يهاجمهم صياد القلوب والأكباد. 

الآن.. لا يستطيع محمود قرنى أن يخبرنى شيئًا.. فقد قرر هو الآخر أن يسافر إليهم.. لتبقى الوجيعة مستمرة.. فيما يستمر تساقط الفراشات والأحباء دون أن أعرف لماذا تستريح الوجيعة فى أكباد الشعراء والطيبين؟