رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صيد الأفراح الصغيرة

يقول الكاتب الإنجليزى العظيم تشارلز ديكنز: «تتألف الحياة من لحظات فراق كثيرة، واحدة تلو الأخرى». ولا يخالف تلك الفكرة سوى فكرة أن الحياة تتألف من لحظات فرح كثيرة، واحدة تلو الأخرى. نحن نبتهج فى الأعياد، وعند الزواج، ومع ميلاد طفل، ونسعد مع ذكرى عيد الجلاء، وحرب أكتوبر، رابع مواجهة عسكرية مع إسرائيل، وعندما ينهى أولادنا دراستهم الجامعية، وبالترقية التى ينالها الوالد فى العمل. نحن نفرح بالأحداث الكبيرة فحسب، بينما يقوم فن الحياة على صيد الأفراح الصغيرة، العابرة، التى تمر بنا كل يوم، ولا نلاحظها، ولا نتوقف عندها. أنا شخصيًا أفرح كل صباح حين أستيقظ، مجرد أن تستيقظ فرحة، ثم تخطو من حجرة النوم إلى المطبخ، فرحة أخرى. أقوم بإعداد الشاى، وأمسك القدح بيدى متجهًا إلى الصالة، أجلس إلى المنضدة وقبل أن أشرع فى التدخين وشرب الشاى أرفع كفى لأعلى، وألهج بالشكر للرب على اليوم المنتظر. وعندما تهبط إلى الشارع بعد يوم طويل داخل المنزل، وتملأ رئتيك بالهواء بقوة، فإنها أيضًا فرحة عزيزة كبيرة. أنت تتنفس، وتتحرك، وتفكر. لحظات فرح واحدة تلو الأخرى، ولا نشعر بها، وعلينا أن نحترف صيد تلك اللحظات. حتى الذكريات عامرة، إذا أردت بتلك اللحظات أتذكر أخى الكبير عبدالملك، وسيرنا فى الشوارع ونحن صغار، نأكل الموز ونلقى بقشره فى الشارع ونحن نتصور أننا بذلك نتحدى المجتمع، فنحس البهجة والغرور. فرح. والدى الذى كان يغيب عنا ويغيب نهب تقلباته وانفعالاته وفجأة يطرق باب الشقة فى منتصف الليل، وقبل أن نفتح نسمع صوته الأجش العميق يغنى أمام باب الشقة: «حسن ونعيمة.. قصة حب جميلة». أى فرحة حتى فى العمر الذى انقضى، وفى الذكريات التى تتوالى صور لحياة لا يمكن استعادتها. وعندما تلم وعكة صحية بأخى الصغير عبدالرحمن، ثم يشفى، أشعر بالفرح لشفائه ولانتصار الإرادة الإنسانية واستمرار الحياة. أنظر فى عينى «ريان» حفيدى الوحيد من ابنتى، وعمره ثلاث سنوات، حين تجره أمه من يده، فينفض يدها صائحًا فيها: «لاء. أنا ولد كبير»، وأشعر بالفرحة. وحين تستعصى على كتابة قصة، وتصبح مثل عصا من الشوك لا يمكن القبض عليها، أفرح حين أقرأ قصة كاتب آخر، تمكن من القبض على العصا ونزع أشواكها، والانتهاء من عمله! كلها لحظات كثيرة صغيرة من الفرح، لا بد من أن نطلق عليها الرغبة فى السعادة فتقع بين أيدينا وتروى نفوسنا بسائل الفرح السحرى. ويمكننا دائمًا حتى فى أشد لحظات الوجع أن نستل البهجة مما كان، فعندما تهجرك معشوقة تذكر القبلات، وليس الدموع، تذكر اليد التى ضغطت على يدك بحب، وليس اليد التى تراجعت وهى تضم أصابعها، تذكر سعادة لحظات الاتصال، وليس مرارة البعاد. لا أذكر من الذى قال إن الأشياء التى لا تولد فى الفرحة تولد ميتة، ويكفى أحيانًا لكى يصبح الإنسان سعيدًا أن ينصت لصوت صديق، تشبعت نبرته بالود، ويكفى للسعادة أن أتذكر أننى قرأت لنجيب محفوظ، وستيفان زفايج، واستمعت إلى موسيقى رحمانينوف، ومحمد الموجى. فكر قليلًا.. وستكتشف أن الحياة عامرة إلى ما لا نهاية بفرحة متصلة، فيما جرى، وما يجرى الآن، وما سيكون غدًا.