رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وكل وقفة.. بعدها عيد

منذ فترة ليست قصيرة لم يعد العيد يومًا مختلفًا عند من هم فى سنى.. فى كل مرة نمرر هذه الملاحظة لأحدنا ونمرق دون أن نتوقف.. فى بداية الأمر كدنا نصدق أن العيد للأطفال فقط.. ثم قررنا أن بُعدنا عن قرانا واستقرارنا فى أماكن بعيدة عن أيامنا الأولى هو الذى يجعلنا نشعر بأننا كبرنا وأن العيد لم يعد فرحة كما كانت تطاردنا أغنية صفاء أبوالسعود ثم سرعان ما استرحنا بأن أطفالنا يفرحون وأن الأيام دواليك.. وهذه سُنة الحياة.. يبدو الأمر عبثيًا إلى حد كبير عندما أفكر فيه منفردًا.. وتبدو فرحتنا الأولى فى أيامنا الأولى فى قرانا البعيدة هى اللوحة الأجمل فى الذاكرة. 

كان العيد فى قريتى.. العيد الكبير موسمًا للرسم.. آه والله ما تستغربوش.. كانت معظم بيوتنا من الطوب النى إلا بعض البيوت القديمة الكبرى لرموز العائلات تلك المدهونة بالجير.. ذات الأسقف العالية وأرضياتها من الخشب أو البلاط ويميز شبابيكها تلك الفنون الغريبة من الخشب والحديد ذى الأشكال شديدة التفرد.. فجأة وقبل العيد بما يزيد على شهر يبدأ البعض من هواة الرسم، النقاشون، فى تلييس أحد المنازل ودهانه بالأبيض واستدعاء الخطاط للكتابة.. كتابة تلك الجمل البديعة التى تسبح بالله وبحمده.. وتذكر اسم صاحب البيت وحرمه اللذين كرمهما الله بدعوته لزيارته فى بيته الحرام.. ورسم النقاش موكب السفر فى الباخرة.. وفى سنوات تالية عرفنا شكل الطائرات الجميلة بشبابيكها الغريبة والمختلفة عن شبابيك بيوتنا من تلك الرسوم.. هو العيد إذن.. وهى أيام الحج.. وهى الزيارات التى لا تتوقف إلى بيت العم فلان الذى صار لقبه من هذه اللحظة حاجًا.. نبارك له صباحًا مساءً وفى كل حين فيما هو يرد التحايا جالسًا أمام منزله المدهون من على دكته الجديدة المدهونة.. وطيلة هذه الفترة التى كانت تقترب من الشهر نتلقى نحن الأطفال الهدايا من حلويات الكارميلا.. منه ومن جيرانه.. وعادة كان المسافرون إلى الحج قلة عددهم لا يزيد على خمسة أو ستة.. لم نكن نعرف الطريق إلى الخياط كثيرًا فى مثل هذه الأيام فأهلنا أخبرونا بأنه مش عيد هدوم.. ده عيد لحمة.. لكن الأمر لا يصدق دومًا.. هناك دومًا جلابية جديدة وكوتشى باتا.. وربما تزيد الفرحة باقتناء كرة من البلاستيك أو يزيد الخير مع محصول الصيف فيكون هناك موعد لشراء عجلة.. فى كل الأحوال يوجد هناك شهر طويل عريض للبهجة. 

ليلة العيد.. كل شىء يبدو مختلفًا فى هذه القرية الصغيرة.. الجلاليب البيضاء المزهرة.. بعضها مزركش سمنى نعرف أنه قادم من الخليج.. العطور الرخيصة- كانوا يسمونها الريحة- تملأ الأماكن.. الأحذية جديدة أيضًا وبعضها من البلاستيك.. كل ذلك يبدو أسطوريًا.. بالنسبة لذلك الطفل الذى لم يغادرنا حتى مطلع الخامسة عشرة.. حيث أدركنا الطريق إلى المدن.. وعرفنا أن ذلك القطار الذى يرعبنا صوته يمكننا أن نستأنسه ونصاحبه ونُصبح من ركابه.. بعيدًا عن الأهل.. ولو ليوم واحد فى السنة. 

يوم العيد كان طقسًا محفوظًا يبدأ بحمل قفف القرص والبرتقال والموز إلى المقابر، حيث تخرج الأمهات ونحن معهن إلى المقابر لزيارة الراحلين فى أبهى زينة.. والبنات الجميلات على وش الزواج يذهبن أيضًا متكحلات العيون متبدرات وعلينا نحن الذكور حمايتهن من أى معاكسة حتى ينتهين من الزيارة وتوزيع هدايا الميتين.. كان الرجال يذهبون إلى هناك أيضًا لكنهم لا يجلسون طويلًا مثل النساء.. فقط يقرأون الفاتحة لأحبابهم ثم يغادرون جماعات إلى دواوير عائلات البلد.. يشاركونهم شرب الشاى والعزاء فيمن مات قريبًا.. يسمونها الوحشة أو التوحيش.. أما نحن فنسرح إلى النيل بعيدًا عن عيون الجميع.. نغطس فيه حتى نتعب.. ثم نرتدى جلاليبنا مجددًا ونسحب تلك العصا من الخيزران ونلف الشيلان على الصدور والأعناق ونمضى إلى الجسر الكبير حيث بعض اللهو فى لعبة البخت.. أو التلات ورقات.. حتى ينتصف النهار ثم نمضى إلى بيوت الأعمام والأخوال للتهانى والحصول على العيديات.. فى زمن متأخر قليلًا عرفنا طريق البندر حيث السينما فى سوهاج أو جرجا لمشاهدة فيلم العيد والعودة قبل المغرب.. وفى زمن أحدث نعود لمتابعة مسرحية فى ذلك التليفزيون الذى عرف الطريق إلى بيوتنا ثم العشاء بطواجن اللحم.. لحم العيد برائحته التى لم تغادرنا حتى الآن.

فى كل عام نفعل نفس الحاجات.. لكننا كنا نشعر بأنها جديدة.. وأنها مختلفة ومبهجة.. الآن لا شىء من ذلك.. أطفالنا أيضًا لا يشعرون بوجود أى جديد رغم أنهم يذهبون إلى المولات ويلعبون ألعابًا حديثة على النت.. ويحصلون على آلاف الجنيهات لكنها لا تكفى للحصول على ضحكة من القلب.. فماذا حدث؟

هل افتقدنا طفولتنا أو عفويتنا أم افتقدنا قدرتنا على الدهشة والفرح.. الفرح أى فرح بناسه قطعنا ونحن فيما يبدو أننا استجبنا لتلك الحياة الاستهلاكية البغيضة وابتعدنا عن ناسنا فابتعد الفرح عنّا.. صرنا نكتفى بتلك المعايدات الإلكترونية عديمة الإحساس فافتقدنا أصوات الأحبة وأشكالهم ووجوههم.. أصبح كل شىء معلبًا.. وكرتونيًا.. وجافًا.. لو كنت أملك أن أُعيد الناس إلى سيرتها الأولى لفعلت.. ولو كنت أملك أن أستعيد طفولتى فى قريتى هناك لفعلت.. ولو كنت أملك أن أستعيد أمى وأبى وأقربائى لفعلت.. لكنهم ليسوا هناك.. لم يبق إلا السيرة وصورة قديمة لحاج بملابس الإحرام البيضاء فى موكب الحجيج على جدران بيت لم يعد موجودًا سوى فى الذاكرة يطلب منا أن نبتسم.. وأن نتذكر أن كل وقفة... بعدها عيد.