رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لاعبون بالأقدام.. ومبدعون بالأقلام

يبدو أن الحياة قادرة على إدهاش الإنسان مهما تقدم به العمر. هذا ما حدث عندما قرأت أن المسئولين فى نادى الأهلى يتفاوضون مع أحد نوادى الكرة القطرية على بيع لاعب مصرى لقطر بأربعة ملايين دولار، أى بنحو ١٣٠ مليون جنيه. خطر لى أن أدباء مصر ومفكريها جميعًا لم يتلقوا، معًا ومجتمعين، مثل ذلك المبلغ مقابل عملهم الأدبى والفكرى، منذ نهضة الحركة الثقافية فى عشرينيات القرن الماضى وإلى يومنا، أى على مدى مائة عام. ويمكن أن نحسب مصاريف توفيق الحكيم فى حياته ومصاريف يحيى حقى والمازنى وطه حسين وألفريد فرج ويوسف إدريس وغيرهم، والمؤكد أنها لن تصل مجتمعة إلى ربع الرقم الذى حصل عليه لاعب كرة قدم فى دقائق. هناك فرق مهول بين الذين يبذلون عصارة أقدامهم وبين الذين يبذلون عصارة فكرهم. وعندما توفى عباس العقاد عام ١٩٦٤، لم يجدوا لديه سوى خمسة وعشرين قرشًا ورقية تحت وسادته بعد أن ترك نحو مائة كتاب وأكثر من ١٥ ألف مقال! والسبب الحقيقى فى تلك الفوارق الضخمة هو قوانين السوق، ذلك أن السوق تغدق على من يشتغلون فى الأنشطة التجارية الرائجة شعبيًا القادرة على حصد الأموال، وبداهة فإن مباريات كرة القدم تحصد الملايين بحكم أعداد من يحضرونها ومن يشاهدونها وأسعار البطاقات، وعائد البث التليفزيونى، ولأنها علاوة على كل ذلك ترفع أرباح الفنادق والمطاعم وخدمات أخرى حيث تجرى. لكن أى ربح كان يمكن أن يجنيه كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» عام ١٩٢٦؟ أو رواية بهاء طاهر «خالتى صفية والدير» عام ١٩٩١؟ لا شىء ما عدا المتاعب مقترنة أحيانًا بملاحقة السلطات، ذلك أن الأدب سلعة غير رائجة فى السوق، الإقبال عليها ضئيل جدًا، عكس الرياضة التى يدفع الملايين لأجل حضورها الكثير، لأنها تخاطب فى الناس شيئًا أصيلًا خلق معهم وهو حب اللعب دفعًا لأعباء الحياة. ولا يمكن للثقافة أن تكون نشاطًا جماهيريًا جذابًا إلا فى مناخ يقدس الثقافة وينشرها بين الناس منذ الصغر، فى التعليم، والتليفزيون، والصحف، بحيث يستطيع أصحاب الأقلام أن يحصلوا على بعض مما يحصل عليه أصحاب الأقدام، حين تصبح الثقافة سلعة رائجة، وليس مجرد بضاعة صغيرة من نخبة كتاب قليلين إلى نخبة أقل من القراء. من ناحية أخرى، فإن الأجور الخيالية التى يحصل عليها اللاعبون والمدربون تجعل الشبان ينظرون إلى اللاعبين بصفتهم نموذج النجاح المادى والمعنوى الذى ينبغى أن يتتبعوا خطواته. وبطبيعة الحال فلا أحد ضد الرياضة ولا ضد إشباع الميول الجماهيرية للعب والاسترخاء وفورات حماسة تشجيع الفرق الرياضية، لكن إلى جانب ذلك يجب أن نشق الطريق لكى يصبح أصحاب الأقلام أيضًا قدوة يتطلع إليها الشبان. ومنذ زمن كتب توفيق الحكيم يقول: «انتقلنا من عصر الأقلام إلى عصر الأقدام»، وقد آن الأوان لكى نوازن بين الهموم الفكرية والهموم الجماهيرية، بحيث لا تدهشنا الحياة بأن ثمن أحد اللاعبين يصل الى أربعة ملايين دولار، بينما عاش معظم الأدباء فى ضائقة مست أهم مستلزمات حياتهم، حتى إن شاعرًا مثل عبدالحميد الديب كان يسكن حجرة فى باب اللوق ولم يكن قادرًا على دفع إيجارها وهو ثمانون قرشًا، فكتب يقول: «ثمانون قرشًا أهلكتنى كأنها.. ثمانون ذنبًا فى سجل عذابى»، وكتب يصف حالته على العموم: «هام بى الأسى والبؤس حتى.. كأنى عبلة والبؤس عنتر».