رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا بد أن يكرهوها

لا بد أن يكرهوها، ولا بد أن يُحرّموها لأنها تنظف العقول، وترتقى بالنفوس، وتدعو إلى حب الحياة، وتطهر الفساد. 
لا أحد يكره الموسيقى مثل المتأسلمين، وجنود الدولة الدينية، ومرتزقة هدم الأوطان، وتخريب كل الأشياء الجميلة.. هى بالنسبة لهم تفتح أبواب الفسق والانحلال والرقص والغناء، لذلك هى ملعونة، منبوذة، تثير شهوات ورغبات لا يُحمد عقباها. 
لكن الحياة لا تسير وفق منطق الكراهية واللعن والتضليل والعُقد.. الحياة تحب مَنْ يحبها، ويرعاها، ويحميها، ويصعد بها درجات إلى الرقى الإنسانى والانفتاح والسعادة والبهجة.. ولا شىء يُسعد ويُبهج مثل الموسيقى. 

اختار العالم يوم 21 يونيو من كل عام ليكون اليوم العالمى للموسيقى، تلك الأعجوبة الساحرة التى يمكنها فعل كل الأشياء، تحويل الممكن إلى مستحيل، واليأس إلى رجاء، والبكاء إلى تطهير للروح، والحزن إلى شجن يضىء الليل، والصمت إلى فلسفة تحتضن الألم.

الموسيقى، بعد فراق الأحباء، والنزف الذى لا يلتئم من قسوة الرحيل، والذهول 
الموحش من اختفاء أقرب الناس، هى التى أنقذتنى من الجنون، أو الانتحار، أو الانقراض، أو السير فى الطريق وأنا أمزق شَعرى، وملابسى، وأحبال صوتى، بعد أن أحرق أوراقى، وذكرياتى، وغرفة نومى، وأبيع أثاث بيتى، بأى مقابل. 

ما سر الموسيقى الذى حيّر الناس فى كل زمان، ومكان؟؟. وكيف من علاقة الإنسان، أو الإنسانة، بالموسيقى تتكشف معالم الشخصية، والطبائع، والأمزجة، والأخلاق؟؟. 
إنها اللغة بدون لغة، والكلمات دون حروف.. إنها البرق، والرعد، وقطرات المطر.. وهى الهدوء والسَكينة وزوال الخطر.. هى دقات القلوب، ودقات القدر، ربما تكون الوطن، والأرض، وقد تكون الطيران وأجنحة السفر، تذيب جلمود الصخر، وتفلق صلابة الحجر.  

عشاق الموسيقى، من النساء والرجال، بالضرورة لهم "جينات" خاصة جدا، تظهر فى انفتاح التفكير، ورقى السلوكيات، ورحابة الثقافة، واحترام تعددية الأصوات، والنفور من انتهاك خصوصيات الآخرين، ورفض أى نوع من الوصايا على البشر. حسب كلمات فريدريك نيتشه، 15 نوفمبر 1844- 25 أغسطس 1900، فيلسوف القوة الذى أعشقه: "الموسيقى تمجدنا، تحررنا، تقود أفكارنا إلى الأسمى".. لا عجب أن أصحاب الأفكار الظلامية، المتعصبة، المتطرفة، أحادية التفكير، رافضة التنوع والاختلاف والتعددية، مخترعى الإرهاب الدينى الدموى، أو إرهاب التشنج، والزعيق، والتشويح بالأيدى، وبالشتائم- لا يكرهون شيئا مثل الموسيقى، بعد كراهيتهم للنساء. 

وهناك الإنسان الذي يذهب إلى حفلة للموسيقى، ويقضى ساعتين مع الأنغام، والألحان "هذا مع افتراض تمتعه بآداب الاستماع إلى الموسيقى"، ثم يعود إلى حياته سالكاً من التصرفات ما هو مناقض للقيم الجمالية، الموسيقية، من خدش مشاعر الآخرين، أو استباحة خصوصياتهم، أو إزعاجهم بالضوضاء، أو التعصب لرأي، أو لديانة، أو طبقة، أو عِرق، أو لون. مثل هذا الإنسان مجزأ المشاعر، متناقض، يتعامل مع الموسيقى على أنها "وسيلة" لقضاء الوقت فقط، أو "سلعة" تستهلك فى لحظة، وينتهى الأمر.
فالاستماع، والمشاهدة، واقتناء الشرائط، والأسطوانات، كلها أشكال استقبال استهلاكية مؤقتة، لا يكون فيها الإنسان إلا طرفاً سلبياً.
إن جوهر الموسيقى، بل جوهر الفنون كلها، هو أن يكتشف الإنسان ذاته الحقيقية، وأن يلمس ذلك الخيط السحري الواصل بين ذاته والعالم.

إن المعزوفة الموسيقية أسعدتنا لأنها جعلتنا نكتشف الموسيقى التي بداخلنا.
إن الإقبال على الحياة، الذي تصنعه معزوفة موسيقية، غير ممكن إلا إذا كان معناه أننا أصبحنا أكثر اقتراباً من طاقة الحياة بداخلنا.
كيف تتحول تلك اللحظة المؤقتة، التي تجتاحنا عند الاستماع إلى الموسيقى، إلى لحظة ممتدة في الحياة؟.

إن الإبداع في الحياة ليس بالضرورة موهبة خلق الأعمال الفنية.. لكنه القدرة على أن نعيش الحياة بجمال، وأن نرهف السمع لصوت الخير والعدل، داخلنا وخارجنا. وأن نقاوم ميول الشر، والتعصب، والعنف، وأن نتصالح مع أنفسنا، ومع الطبيعة. وأن تُغلف تصرفاتنا بالتواضع أمام جلال الكون، ورحابته، وثرائه.

عالمنا المعاصر يجهض كل تناغم راقى الإنسانية، ولا تطربه إلا النغمات "النشاز".
والنتيجة أنه عالم تعس، ضلّ الطريق إلى ما يطهر النفوس من عزلتها الموحشة، وإلى ما بإمكانه أن يعيد للبشر تواصلهم، بعد حصار الكذب، والشهوات الزائلة، والجشع.
والتغيير لن يحدث إلا إذا تحولت الموسيقى من مجرد سلعة للاستهلاك المؤقت، أو مهنة في سلم الوظائف، أو أداة للترفيه، أو مناسبة لعقد المهرجانات، إلى "عادة" نفسية، واجتماعية يومية، نمارسها دون جهد، مثل التنفس، والحركة، والاشتياق إلى الحرية، والعدالة. 
 إن الموسيقى أحد أسرار الإنسان المحيرة، وهى بصمة كل شعب على جدران 
الكون.  
    
 من بستان قصائدى 
-------------------------                                   
يكذّب حركة الأرض حول الشمس 
ولا يصدق إلا بدورانها 
حول تفاصيل فمى وجسدى 
ولا تنام فى مكتبته 
إلا خواطرى الحزينة 
وما كتبته من أشعار 
أخذ أجازة من العالم
ليجفف الدم من عيونى 
يعطينى الدواء بميعاد 
يسكب الحنان بميعاد 
أخبئ رأسى المتعبة فى أحضانه 
فأنسى عبث الدنيا وقسوة الأقدار.