رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصرع «القروى الشهير»

كان الطموح الزائد أساس توجس «نظام الملك» من صديق طفولته «الحسن الصباح»، وقد حاول احتواءه فى سياق منصب سياسى كحاجب فى البلاط السلجوقى، لكن «الصباح» طمع فى مكان «نظام الملك»، بل فى مكان السلطان «ملكشاه» نفسه، ونتيجة لذلك فقد خرج مطرودًا من قصر الحكم السلجوقى، وفر إلى أصبهان ومنها إلى مصر، هربًا من «نظام الملك» الذى أخذ يطارده، ونتيجة انخراطه فى الصراع الناشب بين أحمد المستعلى وشقيقه نزار- ابنى المستنصر بالله- طورد فى مصر، ففر منها وعاد إلى بلاد فارس، وبدأ فى التفتيش عن أرض منيعة يمكن أن ينطلق منها إلى مناوأة الدولة السلجوقية التركية، ووجد ضالته فى قلعة «ألموت»، وكان استيلاء «الحسن» على هذه القلعة إيذانًا ببدء حربه على السلاجقة ووزير دولتهم «نظام الملك». 

كلا الطرفين كان متربصًا بالآخر، «نظام الملك» يريد القضاء على «الصباح»، والأخير يريد القضاء على الأول، وكان لا بد من نهاية دموية للصراع بين رجل الدولة وزعيم الجماعة، الاثنين اللذين جمعت بينهما صداقة متينة فى عهد الطفولة، مع ثالثهما عمر الخيام. وبينما كان يجلس «الصباح» فى قلعة «ألموت» ذات يوم قرر إنفاذ ما انتواه منذ مدة من اغتيال الوزير «نظام الملك».

يحكى «ابن كثير» قصة اغتيال الوزير الشهير قائلًا: «خرج نظام الملك مع السلطان من أصبهان قاصدًا بغداد فى مستهل رمضان، فلما كان اليوم العاشر اجتاز فى بعض طريقه بقرية بالقرب من نهاوند وهو يسايره فى محفة، فقال: قد قتل ههنا خلق من الصحابة زمن عمر، فطوبى لمن يكون عندهم، فاتفق أنه لما أفطر جاءه صبى فى هيئة مستغيث به، فلما انتهى إليه ضربه بسكين فى فؤاده وهرب، وعثر بأحد أعمدة الخيمة فأُخذ فقتل، ومكث الوزير ساعة، وجاءه السلطان «ملكشاه» يعوده فمات وهو عنده، وقد اتهم السلطان فى أمره أنه هو الذى مالأ عليه، فلم تطل مدته بعده سوى خمسة وثلاثين يومًا».

فى المقابل من رواية «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» حول واقعة اغتيال «نظام الملك»، أشار «ابن الأثير»، فى «الكامل فى التاريخ»، صراحة إلى أن من نفذ عملية الاغتيال فى «نظام الملك» هو صبى من الباطنية، ويقول فى ذلك: «بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج فى محفته إلى خيمة حرمه، يقصد نظام الملك، أتاه صبى ديلمى من الباطنية، فى صورة مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة، فأدركوه فقتلوه».

وربما كانت تلك الإشارة إلى أن الصبى الذى اغتال «نظام الملك» من «الباطنية» هى التى بررت الذهاب إلى أن «الحسن الصباح» هو من خطط وأشرف على تنفيذ عملية اغتيال نظام الملك، على أساس أن الصبى كان من الباطنية، ووصف الباطنية كان أحد الأوصاف التى يُنعت بها أتباع المذهب الإسماعيلى. كما أن الطريقة التى اغتيل بها الوزير، والتى تستند إلى الحيلة والغيلة فى التخلص منه، تؤشر أيضًا إلى أن قاتله ينتمى إلى فرق الاغتيال بقلعة «ألموت».

لكن كتب التاريخ تحكى، فى المقابل، أن أصل اغتيال «نظام الملك» ارتبط بإحساس السلطان السلجوقى بالغضب جراء تمدد نفوذه بالدولة، بعد أن أحكم قبضته عليها من خلال تعيين أبنائه وأحفاده فى مواقع الوزارة والحكم، لكن الأرجح أن «نظام الملك» قُتل على يد أحد عناصر فرق «ألموت»، وأن اغتياله تم بأمر من «الحسن الصباح»، والدليل على ذلك أن «الصباح» لم يتوقف عن الانتقام من عائلة «نظام الملك» بعد أن تخلص من رأسها. فقد كان من بين من قامت فرق الاغتيالات التابعة له باغتيالهم الوزير فخر الملك بن نظام الملك، وتمنحك مراجعة واقعة اغتياله العديد من المؤشرات حول طريقة وأسلوب عمل هذه الفرق. 

يحكى ابن الأثير، فى كتابه الكامل، قصة مقتل فخر الملك، وزير السلطان السلجوقى سنجر بن ملكشاه، قائلًا: «أصبح فخر الملك يوم عاشوراء صائمًا، وقال لأصحابه: رأيت الليلة فى المنام الحسين بن على وهو يقول: عجّل إلينا، وليكن إفطارك عندنا، وقد اشتغل فكرى به، ولا محيد عن قضاء الله وقدره!، وقالوا: يحميك الله، والصواب ألا تخرج اليوم والليلة من دارك، فأقام يومه يصلى ويقرأ القرآن، وتصدق بشىء كثير. فلما كان وقت العصر خرج من الدار التى كان بها يريد دار النساء، فسمع صياح متظلم شديد الحرقة، وهو يقول: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف مظلمة، ولا يأخذ بيد ملهوف! فأحضره عنده، رحمة له، فحضر فقال: ما حالك؟ فدفع إليه رقعة، فبينما فخر الملك يتأملها، إذ ضربه بسكين فقضى عليه، فمات».

أراد «ابن الأثير» أن يؤكد أن «فخرالدين» كان يشعر بدنو أجله، وأن من حوله أحسوا بذلك عندما حكى لهم منامه، فنصحوه بعدم الخروج، لكنه أبى. وجانب التمحك فى هذه القصة واضح، كما أن جانب الحيلة ظاهر أشد الظهور فى أداء الصبى الذى تولى أمر اغتيال فخرالدين عندما خرج إلى نسائه، حين صرخ مستغيثًا ومتظلمًا وقائلًا بأسلوب مؤثر: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف مظلمة، ولا يأخذ بيد ملهوف!. ويُفهم من سياق القصة التى حكاها «ابن الأثير» أن جانب المروءة فى شخص الوزير فخرالدين كان واضحًا، عندما بادر إلى إغاثة الباطنى، وجانب الخسة كان ظاهرًا عند القاتل، الذى بتر اليد التى امتدت إليه بالإغاثة.

يقول «برنارد لويس»، فى كتابه «الحشاشون»: «ونجد فى قائمة الشرف التى تحوى اغتيالات الحشاشين التى عثر عليها بقلعة ألموت نحو ٥٠ حالة أثناء حكم الحسن الصباح تبدأ بالوزير نظام الملك، وأكثر من نصف هؤلاء الضحايا ينتمون إلى هذه الفترة». هذا العدد «٥٠ حالة» الذى يتحدث عنه «برنارد» ليس بالعدد الكبير بالطبع، ويعنى هذا الرقم أن «الصباح»، خلافًا لدعاة حمل السلاح من بعده، كان يحتاط أشد الاحتياط فى القتل، وأن سلاح الاغتيال فى عصره كان يتوجه بشكل محدد نحو الخصوم السياسيين، أو الشخصيات التى يقبض التنظيم ثمن اغتيالها، سواء كان الثمن مالًا أو تمكينًا لهم داخل أروقة الدولة السلجوقية، ولم تكن الخناجر تتوجه بحال إلى الأهالى العاديين.

وهكذا اُغتيل «نظام الملك» كما توقع «عميد الملك» ذلك حين وقف الأول وراء مقتله ليحل محله كوزير للدولة السلجوقية، وجاء مصرعه على يد صديقه الذى توعد فى قلعته ذلك القروى الذى بهرته أضواء الحكم السلجوقى.