رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التكنولوجيا.. من الصداقة إلى العداوة

 

 

عام ١٩٨٠ كنت جالسًا مع والدى إلى مائدة الطعام فى موسكو، وعنّ له أن يكلم صديقًا فراح يدير قرص التليفون. فى حينه لم نكن نعرف سوى التليفون الأرضى. وضع السماعة على أذنه وبعد قليل وجدت ملامحه تنقلب إلى التعجب فالدهشة الشديدة، أطبق السماعة على الجهاز ملتفتًا نحوى يقول بذهول: «حاجة غريبة جدًا!! رد علىّ صوت معدنى يقول فلان غير موجود الآن، اترك له رسالة»! وسألنى بحيرة عميقة: «إيه ده يا ابنى؟!». 

احترت بدورى ولكننى لم أهتدِ إلى جواب، فظل يمصمص شفتيه مرتبكًا، ثم كأنما أدرك الأمر فقال بنظرة مكر كثيفة: «جهاز تجسس؟!». 

أغرقت فى الضحك وقلت له: «جهاز تجسس إيه بس اللى ح يقول لك اترك رسالة؟!»، زام وصاح: «عندك حق.. طيب أمال ده إيه بس؟!». 

فى تلك السنوات لم يصل خيالى ولا خياله إلى أن ذلك ببساطة «جهاز الرد الآلى» (آنسر ماشين) الذى لم يسبق لنا أن سمعنا به أو رأيناه، وكان ظهوره يُشبه المعجزة، مثلما حدث مع الفيديو من قبل، وفيسبوك والمحمول لاحقًا. 

ولم يكن «جهاز الرد الآلى» وغيره سوى حلقة من تطور «الفونوجراف» الذى اخترعه توماس إديسون فى ١٦ يونيو ١٨٧٧، واشتق اسمه من كلمتى «فونو» أى صوت، و«جراف» أى كتابة أو تسجيل، ومنذ ذلك الحين قطع العلم رحلة طويلة فى كل المجالات دون استثناء، الفضاء والطب والاتصالات وعلوم الوراثة وغيرها، وصولًا إلى الذكاء الاصطناعى. 

وقد شاهدت منذ فترة بسيطة فيديو يتحدث فيه الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بصوت توفيق عكاشة، حيث يستحيل التمييز بين ترامب وعكاشة! ما يفتح الأبواب على مصراعيها لمخاوف لا تحد من استخدام العلم ضد الإنسان فى تلفيق جرائم أو تشويه سمعته وغير ذلك، ما ينذر بأن الإنسان لم يعد يسيطر على الوحش الذى أطلقه، وأن الصداقة التى كانت بين الإنسان والعلوم تكاد تنقلب إلى عداوة. 

وقد برزت تلك المخاوف مبكرًا مع صعود العلوم التطبيقية فى القرن الثامن عشر، وحينذاك، وتحديدًا عام ١٨١٨ كتبت مارى شيلى روايتها الشهيرة «فرانكنشتاين»، ونشرت فى البداية من دون ذكر اسم المؤلفة التى لم يكن عمرها يتجاوز العشرين، ثم باسمها لاحقًا. وتدور القصة حول رجل يخلق وحشًا دميمًا ثم لا يستطيع السيطرة عليه، فينطلق الوحش فى عمليات قتل وترويع، وانقلب الأمر على المخترع. وكانت الرواية الإنجليزية أول تحذير مبكر من خروج قطار العلم عن السيطرة، وربما لذلك السبب تحولت الرواية إلى أكثر من مائة وسبعين عملًا سينمائيًا غير العروض المسرحية وغيرها، لأنها بشكل أو بآخر نبهت إلى أن العلماء قد يشبهون فرانكنشتاين فى طموحهم لاستجلاء المجهول واختراقه، إلى أن تمكنوا من اكتشاف الذرّة ثم تفجير نواة الذرّة واختراع القنبلة الذرية التى أبادت الآلاف فى هيروشيما وناجازاكى. 

لهذا قال الزعيم الإنجليزى تشرشل ذات مرة: «أخشى أن يكون فناء الأرض على أجنحة العلم المتطور اللامعة». وتتسع مساحات الخوف من الذكاء الاصطناعى الذى كان «جون مكارثى» أول من بدأ يكتشفه فى خمسينيات القرن الماضى، ثم تطور وحقق قفزات هائلة. ويقول البعض إن لذلك الذكاء ضوابط أخلاقية تتضمنها البرامج المودعة فى الجهاز، لكن المشكلة ليست فى الجهاز، المشكلة فيمن يتحكمون بالأجهزة، وكما أن البعض يضعون الضوابط، فإن بوسعهم أن يمسحوا تلك القواعد وأن يستخدموا الذكاء الاصطناعى فى أى شىء.. لقد قمنا بإطلاق الوحش، وربما لم يعد بوسعنا السيطرة عليه، أو إعادته إلى داخل القمقم.