رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

امرأة ورجل وثالثهما فرجينيا وولف.. قصة قصيرة

أتى المساء، وتلألأت أضواء كون غير مُبالٍ، هل يسكنه بشر أم حجر، سيان لديه الحزن والفرح.. أفاقت السماء من خمرة ألوان، تثير فى النفس ألف إيحاء.. غرد الكروان أغنيات تلقى الحكمة للشجر.
أتى المساء، وتهيأ النيل لشكواه الصامتة لاحتضان أمنيات العشاق وعابرى سبيل لا ينتهى ولا يبين.. تجملت المدينة وللجمال قسوة لا يخفيها.. تتراقص الأنجم، وتجذب من النفس إيقاعا منسيا تتمناه الذاكرة.
أتى المساء، ينادينى الثوب الأسود الجديد أن أرتديه.. حاصرتنى علامات الاستفهام. لِمَ ارتباكي.. لِمَ الذكريات.. والكون بأسره لا يبالى.
أتى المساء، أتى يذكرنى بالموعد.
ضيف قادم بعد لحظات أعرفه ولا أعرفه. لِمَ دعوته الليلة؟ أى حوار يمكن أن يجمع بيننا؟ ما الذى يمكن أن نفعله معًا الليلة؟ ما الذى يمكن أن تفعله امرأة مثلى مع أى رجل؟.
أتى المساء، أطل على وحدتى بقامته الفارعة.
بثقة النبى المؤمن برسالته، القادر على صنع المعجزات، قال: هل تتقبلين هديتى البسيطة؟
- هدية؟ ما المناسبة؟
- أول مرة تسمحين لى بالدخول إلى محرابك، ألا يستحق الأمر هدية؟
- لِمَ تتعجل الحكم؟ لا نعرف بعد هل يستحق أم لا
- ألا تعرفين أنى مغامر كبير، أعشق الخطر ومستعد لكل احتمال
هديته تزعجنى، فهى تَنُم عن رقة لستُ مُهيأة لتحمل تَبِعاتِها.
ينظر إلى الكأس الفارغ، ومنه إلى عينيَ ويقول:
 «هل لنا أن نشرب نخب أول مرة أتأكـد فيـهـا مـن لـون عينيك؟. كم اشتقت لهذه الكأس المشتركة». 
يتكلم بسلاسة، كأنه يعرفنى منذ أول كأس بين عاشقين.
يتحرك كأن المكان بيته المفقود فى العالم. 
أرفع كأسى، يرفع كأسـه، لكن الكلفة بين العيـون، لم تُرفع بعد. 
رنة الكأسين تـوحى إليَ برعشـة. أرتعش، وإذ تواجهنى عيناه العسليتان يسرى دفء يستغربه جسدى.
 «ماذا تقرئين هـذه الأيام؟». يسألنى متخـذًا مكـانًا أقرب إليَ.
أســـألــه: «وهل يهمك الأمر؟». 
متحمسًـا يقـول: «بالطبع، أعندك شك؟».
قلت: «ولماذا يهمك الأمر؟». 
بابتسامة يـرد: «الدخول إليك يبدأ من العقل، وأنا مُصر على الدخول إليكِ».
أقــــــــــــول: «أقرأ عن حياة فرجينيا وولف».
يأخذ رشفة من كأسه ويقول: «كان يجب أن أتوقع هذا؟».
أســـــــــألـــه: «ماذا تقصد؟».
يقــــــــــــول: «أنت وهى متشابهتان. غموض الأطوار، عشق البحر..
ارتباك الصحة.. حزن شارد بين السطور.. تمرد جامح..
عقل لا يروض و...
يصمـــــــــــت
تسأله نظرة عينيَ أن يكمل.
 «ورفض الأنوثة. لكن أرجوكِ لا تسيئى فهمى».
 «أسىء فهمك؟! الأمـر بسيط لا يحتاج لفهم أو سوء فهم. ألست من جنس الرجال؟؟. هذا يشرح كل شىء». 
- قال منفعلا: «لا، لا، أرجوك.. لا تبدأى ليلتنا هكذا، أنا أفضل من فهمك هذا بكثير». 
 «قد تكون مختلفا بعض الشيء عن بقية الرجال. لكنك رجل، ويهمك أن أقوم بدور الأنثى».
 «لا، لا، أرجوك.. ليس الأمر هكذا».
أخذ رشفة.. رشفتين. أحدق فى عينيه متسائلة:
«ما الأمر إذن؟».
 «ألديك شك فى أننى أفهمك أكثر من هذا الحد؟. أعرف رفضك للأنوثة وأحترمه أيضًا... لكنكِ تهملين أنوثتك المختلفة، لا تعطيها حقها». 
 «لا أنتظر رجلًا ليصنع منى أنثى».
يرفع كأسـه قائلًا: «أنا موافق. لنشرب نخب الأنوثة المختلفة».
رفعت كأسى قـائـلـة: «مـوافـقـتـك أو عـدم مـوافقتك سيـان. لنشـرب نخب انتصاف الليل».
ينظر فى ساعته ويقول: «حقًا انتصف الليل». 
رنة الكأسين هذه المرة، ترسل إليَ ألفة، أسـأل- ما زلت - عن مبررها.
أحس أنـه يبذل جهـدًا، لكى أصـدق نبوءة عينيـه العسلتين. يا لجرأته فى زمن لا يفهم لغـة العيـون، لا يصلح للنبوءات.
شردت فى التساؤل.
أفقت على يده تأخذ منى الكأس.
قــلــــــت: «كثيرون ممنْ نعرفهم يموتون هذه الأيام».
 «صحيح. وكأن القرن الواحد والعشرين يرتب لبداية جديدة من البشر».
 «ومن أين تأتى ثمار جديدة، والبذرة لم تتغير؟».
 «لم أعرف أنك بهذا التشاؤم».
«أتسمى رؤية الحقيقة تشاؤماً؟».
 «الموت يجدد خلايا الحياة». 
 «أهكذا تفلسف الموت؟».
يصب لى كأسًا أخرى، وهو يقـول: «وما العيب فى هـذا، ألست عاشقـة كبيرة للتفلسف؟».
أسدد دين الرقة، وبدورى أصب لـه كأسًا أخرى وأقول: «خيط رفيع بين التوهم والتفلسف».
يبتســم قـــــائلا: هذا صحيح. لكـن المشكلة منْ يمتلك وحـده الحقيقة ليرسم الحـد الفاصل بين الأوهـام والفلسفة. منْ يحكم ويقول أننى رجل متوهم، وأنكِ امرأة متفلسفة؟».
أقـــــــــــول: «بالطبع هناك حدود فاصلة».
قـــــــــــــال: «وبالطبع هناك زجاجة أخرى؟».
فرغت الزجاجة، وامثلات نفسى بحنين. غامض لا أدرى أين منتهاه. 
 «أخذت كفايتى».
 «وأنا أيضاً. لكن أحقًا أخذت أنتِ كفايتك؟».
 «نعم أخذت حقًا كفايتي». 
 «شيء غريب لا أصدقه». 
أسأله مندهشـــة: «وما الغريب فى هذا؟».
 «أنتِ لا تأخذين أبـدًا كفايتك، أنت عدم ارتـواء متنكر فى امرأة، وأتصور لو أنكِ ارتويت يوماً، أو أخذت كفايتك، لكانت 
نهايتك.. هل أنا مخطئ؟» 
أصابنى حـديثه بدهشة، كيف يعرفنى حتى هذا العمق، ولا أدري؟.
كيف عبـر إلى ما تحت جلدى، ولم أشعر بجسم غريب؟.
كيف لمس شريان وجودى، ولم يقشعر دمي؟.
يســــألنـــي: «لِمَ صمتك؟ هل أخطأت، هل بالغت؟».
-: «لا، لست مخطئاً». 
يعيـد الســــؤال: «أحقا أخذتِ كفايتك؟».
أقــــــــــول: «أكره الحرمان. لكننى أيضًا أنفـر من الارتواء.. تألقى هـو البقاء فى المنتصف بين الـحـرمـان والارتواء.. بالـحـرمـان تـذبـــل  وتجف أوراقى، مع الارتواء تتساقط وتموت. وحين أقول أخـذت كفايتى، أعنى أننى أتوقف عند ذلك الحـد فى المنتصف. لا هـو النقـص ولا هـوالكفاية. لابد من بقية يجب ألا تأتى أبدا». 
قـــــــــــــال: «كفايتك هى ألا تكتفي. لكن ماذا عن البقية؟». 
-: «تلك البقيـة هى الحلم.. هى الخيـال.. هى الفن.. هى سر السعادة..»
-: «كلى آذان صاغية».
-: «السعادة هى الدهشة المستمرة، تألق لا يفتـر، تجـدد.. 
السعـادة بقـاء على حافة الخطـر.. هى التأرجح مـا بين الرجوع 
والسفـر. فهل بقـدرة الحرمـان الكامل، أو الارتواء الكامل أن 
يسعد؟». 
يقـــــــــول: «الحرمان الكامل؟. بالطبع لا. لكن الارتواء الكامل..»
أقـــاطعــــــه: «أنت مع الارتواء الكامل، تغتـال الـدهـشـة،.. تلغى التجـدد.. تحكم على العقل بالرتابة وعلى الإحساس بالفتور، تعيش 
الملل والأمان.. أى حياة وأى سعادة، بل أى فضيلة فى الارتواء 
الكامل؟».
يصمت لحظة ثم يقول: «لم أتصور الارتواء الكامل من قبل بهذا الشكل».
امتزج نسيم مـا بعد انتصـاف الليل، بصمت يكمل بيننا حـوارا، أخـذ من مـلامحـه العـذوبـة، ومنحنى فرحـة الإصغاء.
أســـألـــــــــــه: «لماذا تريد معرفتى؟».
فوجئ بالسؤال. وأنا مثله. 
يقـــــــــــــول: «السؤال خاطئ. ولن أذكرك بما تقولين دائماً.. الأسئلة الخاطئة تقود إلى إجابات خاطئة».
-: «لماذا أنا بالتحديد؟».
-: « من الطبيعى أن يتحمس رجـل عـادى، لمعـرفـة امـرأة 
استثنائية. السؤال هـو.. لماذا تريدين أنتِ معرفتي؟. لماذا تريد امرأة استثنائية، أن تعرف رجلا عاديا؟».
-: «لست رجلا عاديا. لا يمكن أن تكون».
-: والله رجل عادى، أتعرفيننى أكثر من نفسي؟.
-: «بل أعـرف نفسي. وإصرارى على كـونك رجـلا غيـر عـادى، هو تأكـد منى أكثر منه تـأكد منك. بـداخلى حساسية مرهفـة تلتقط غـيـر العـاديين من البشر. أنا لا أسمح للرجل العـادى أن يزورنى فى محرابي.. ولا أشـرب نخـب منتصف الليل مع الـرجـل العـادي.. ولا أتأمل جمال المساء مع الرجــال العاديين. قد لا تكون استثنائيا، لكنك بالتأكيد لست عاديا».
-: «فى الماضى، عشت فى وهم أننى غيـر عـادى لكننى الآن... ».
-: «ليس من المعقول أن نتحاور كل هـذه الفترة وبهـذا الشكل، وتكون رجلا عاديا.. لا أتصور أن يحضر رجل عادى هديتـك الرقيقة.. كيف تكون عاديا وقد اقتحمت- بكل اختيارى - محرابي؟».
-: «أهكذا الأمر؟. قلت لكِ أننى تخلصت ونهائيا من هذا الوهم». 
-: «ولمِ لا تكون حقيقتك هى التى تخلصت منها؟». 
-: «أريد أن أكون عادياً، أليس كذلك؟». 
-: «نعم.. تهرب من حقيقتك..؟». 
-: «وفى رأيك، لماذا أهرب منها؟».
-: «لأنك لا تستطيع تحملها». 
يتنهد.. يصمت.
لصمته حون يزيد ملامحه عذوبة، تقلل بين روحينا المسافات. مرة أخرى، تداعبنى الألفة. لكننى هذه المرة، لا أسأل عن مبررها. 
يخرج الغليون ويبدأ فى إشعاله. 
كلى دهشة متسائلة: «أتدخن الغليون؟». 
يرد وهو مستغرق فى إشعاله: «أتضايقك رائحته؟». 
أقـــــــــــول: أبداً.. على العكس.. لم أر شابًا فى عمرك يدخن الغليون.. صدفة غريبة.. هل تعرف أن الغليون نقطة ضعف فى حياتي.. كم يشدنى الرجل الذي.. 
مقاطعًا وتاركًا الغليون: «الذى يدخن الغليون.. أهذا صحيح؟». 
قلــــــــت : «نعم..».
قــــــــــــال: «أشكرك.. وأشكر الغليون..». 
أســــــألـــه: «ما رأيك فى رقصة؟». 
قـــــــــــال: «وكيف لى أن أرفض؟». 
أعددت الموسيقى، مددت يدى إليه.. أخذها.
ولا أدرى كم من الوقت مضى، والنغم ثالثنا. حقا حينما تعجز الكلمـة، تبدأ المـوسيـقـى، كما قـال الشاعر «هايني».
مع الــرقص أصبحت نـبــوءة عينيـه أجمل، وأولى بالتصديق.
-: «أترقص بهذه الرقة وتكون رجلا عاديا؟».
-: «أنت التى تضطرينني.. معـكِ فقط أحس أننى مجبرعلى أن أكون رقيقا وجميلا وحساسا. معكِ فقط أحس أنه لا مفر من الرقة..».
-: «معى فقط؟!».
-: «مع النساء الأخريات، لست مضطرًا لأى شيء. معكِ فقط أشعر أننى لابد أن أحسب كل كلمـة وكل حركة.. معكِ فقط أحس أننى فى اختبار عسير». 
-: «هذا بالتأكيد ليس إحساسًا مريحًا..». 
-: «ولكنه يمتعنى ويسعدني.. أعـرف نـسـاء أعيش معهن إحساس الراحة أما أنتِ.. أنتِ.. أنتِ». 
-: «أنا ماذا؟».
قـــــــــــال: «أنتِ التعب الجميل.. أنتِ القلق الممتع».
قلــــــــــت: «وتصر على كونك رجلا عاديا؟!».
لا تتردد عيناه فى منحى ابتسامة لها ألف احتمال. أما أنا فابتسامتى مترددة. لـمِ التـردد؟. وهـو الذى فى اختبـارعسير لا أنا.
تأخذنا الأنغام فى رحلة لم نرتب لها. تلف بنـا الكون وتدور وتخلق لنا بين النجوم مكانًا ومبررا.
ويفاجئنى بسؤال أحببته: «ما آخر أخبار الصداع؟».
-: «ما زال ضيفًا منتظماً. هاجمتنى بالأمس نوبة شرسة».
-: «كم يعــذبنى أن أقف متفـرجـاً. ليس عـدلًا أن يـؤلـم الصداع امرأة استثنائية».
-: «لم أعد أبحث عن عـلاج، لقد فلسفت الأمـر.. صحبته الآن تؤنسنى فى وحدتى».
-: «لست مندهشاً.. هل أقول لكِ كيف؟».
-: «أتعرف؟».
-: «ثمن الاستثناء».
-: وتصر على كونك رجلا عاديا؟!
أتى المســـــاء،
شيء ما بيننا يولد مع نسيم الليل، والنغم الحزين. 
شىء مـا يـؤكـد، أننى لم أعـد فى حيـاد مع نبـوءة عينيـه العسليتين.
أتى المســــاء، 
شىء مـا يـمـزج داخـلى التحسر.. بالتمنى، التـذكـر بالتردد.
مـــر المســــاء، 
كم أحببت صُحبته.

**************
من بستان قصائدى 
--------------------
إذا كنت لا تحبنى 
فهذه بالتأكيد مصيبة 
أما إذا كنت تحبنى 
فالمصيبة بالتأكيد أعظم 
-------------------------------