رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المختطف

كان طفلاً والخاطفون كانوا هم المستقطبين، وهؤلاء المستقطبون هم دوماً الأصوليون الذين يرون أنفسهم ملاكاً للحقيقة الواحدة المطلقة التي لا تقبل الشك فيها أو التباحث حولها..
المستقطبون يرون أنهم ظل الله على الأرض ونوابه وأنهم يحققون مشيئته لا مشيئتهم هم وأنهم مسيرون لا مخيرون ويكونون عادةً شديدي الوفاء والتشبث بتلك الفكرة لحد الهوس بل والجنون.

ذلك الهوس الذي يجعل من الإنسان  عبداً ويجعل من  الناس عبيداً للفكرة المسيطرة عليهم حتى يلعقوا الأرض تحت أقدام  إلههم الأرضي وأقصد بالإله الأرضي و ظل الإله ع الأرض (رجل الدين) الذي يتحول مع الوقت لإله ويصير هو الدين عينه بل ويصبح مؤلهاً لا يخطئ ولا يمكن مناقشته أو التجاذب معه وإن حدث ذلك يرفضه فورا ذلك الإله الأرضي بوصفه تهافتًا وهرتقة، وهذا تماما وحرفيا ما فعله الطفل الذي كبر في أحضان البابا في القرن الماضي فلعق الأرض تحت أقدامه عندما صار شاباً وتنصل وتنكر لأهله وللدين الذي ولد عليه وهو اليهودية لمجرد أن مربيته وضعت قطرات من الماء (والذي تعتبره مقدساً) على جبين الطفل.

ومن ثم قامت بتعميده وهو  لا يعي شيئاً في ذلك الوجود ولم يختره فولد مسيراً وظل هكذا بعد أن تربى على السمع والطاعة والانبطاح والتماهي التام مع إلهه الأرضي ..وكان إلهه وأبوه هو بابا روما والفاتيكان -في ذلك العهد - والذي أراد خلاص الطفل وإنقاذه باعتباره مسيحياً فانتزعه من أحضان والديه وإخوته  اليهود وكأنه ينصر المسيحية ويحقق مشيئة الإله ويدخل الطفل إلى الملكوت وهذا ما شاهدناه وعبر عنه فيلم المخرج الإيطالي الكبير (ماركو بيلوشيو) والذي شاهدنا عرضه العالمي الأول في إطار فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته السادسة والسبعين والتي كانت دورة مليئة بالزحم الذي أعاد للمهرجان رونقه بعيداً عن الحروب والتطاحن والاستقطاب الذي طال المهرجان مع الأسف عندما تم خلط السياسة بالفن والإبداع وهو ما حدث في دورة المهرجان السابقة وزج به في صراعات المتناحرين وانحياز القائمين عليه لقرارات الاتحاد الأوروبي وليس فقط فرنسا بالانتصار والانحياز لأوكرانيا ومقاطعة روسيا حتى ظهر الرئيس الأوكراني على شاشة المهرجان في حفل افتتاحه!

وهو يرتدي زيه العسكري ويوجه كلمة من خلال أهم وأقدم وأعرق مهرجان سينما في تاريخ العالم في سقطة خلفت غصة عند عشاق الفن السابع ليفقد المهرجان مصداقيته عند الكثيرين ويحيد عن مهمته المنوطة به وهي دعم السينما والاحتفاء بها لنشر البهجة وقيم الجمال في ربوع الإرض ..أما دورة هذا العام فلم تضم فيلم (بيلوشيو) فقط بل سار على سجاد المهرجان الأحمر صانع الأفلام (مارتن سكورسيزي) ومعه رفيق رحلته الأقدم (روبرت دي نيرو)  والشاب الذي وضعه على سلم النجومية (ليوناردو دي كابريو) وحضر للمهرجان كذلك (توم هانكس) والمخرج الإسباني الكبير (الموديفوار) و(هاريسون فورد)  و(جين فوندا ) و(روبن اوستلاند ) رئيس لجنة التحكيم في هذه الدورة بعد حصوله على سعفة المهرجان الذهبية مرتين في تاريخه ليستعيد المهرجان كما سبق وأوضحت رونقه. بل ويسترد بوصلته ويسير في طريقه الذي جعل له منذ أكثر من ٧٠ عاما. 
أما الفيلم الإيطالي الكبير (بيلوشيو ) والذي كنت أراه يستحق جائزة في مهرجان كان 
فقدم لنا قصة حقيقية لطفل ولد لأسرة يهودية في إيطاليا وتم انتزاعه من أسرته، فرجال الدين يقررون لنا مصائرنا ويختارون لنا عقائدنا ويجعلوننا مسيرين لمشيئتهم.
لذلك اختطف الطفل من بين أحضان عائلته ظناً منهم أنهم ينقذونه فشوهوا روحه وفطرته ونقلوه من دين إلى دين وكلها أديان الله وكلنا سنفوز بالجنة .. فالجنة لمن لم يأثم قلبه، لا يهم أي دين تعتقد أو تختار، فلماذا يفرضون عليك ديناً كي تفوز بالفردوس والفردوس ليس حكراً على جماعة بعينها أو دين بعينه، فالفردوس والخلاص للجميع ومن يحبون الله وتلك جملة قالها أحد الخاطفين في الفيلم لوالد الطفل المختطف ليهون عليه..

وإن وعى حقيقة ما قال ما أسهم في خطف الطفل  لكنه كان يؤدي مهمة ويحقق مشيئة الإله الأرضي (بابا الفاتيكان ) في تلك العهود البائدة التي لم يعد لها وجود الآن و صححت أوضاع كثيرة و حدثت ثورة تصحيح حقيقية في الفاتيكان لكن أراد (بيلوشيو) أن يذكرنا بما حدث في عهد مضى كي لا ننسى فالذكرى دوماً ما تنفع الراشدين ليدوم الرشد ولا ننحرف عنه لغيابات وهلاوس وضلالات رجال الدين، فجل أمانيهم أن يجعلونا تابعين وعبيدا لهم لا عباداً للرحمن الذي يريد لنا الطمأنينة ع الأرض لنخلد في فردوسه في نهاية المطاف. 
ودخل الطفل بعد اختطافه لحاضنة جديدة وصار جندياً في معسكر البابا الملىء بآلاعيب الحواة الذين أبهروه بشكل ممنهج وانخرط معهم وتزامل مع أطفال من عمره كان أحدهم مريضاً ولم تفلح ما يدعيه رجال الدين من معجزات في شفائه فذهب لرب السموات داحضاً أكاذيبهم وادعاءاتهم بالمقدرة المطلقة وأن يد الله تتمثل في أياديهم وأنهم فاعلون. في حين أن كلنا بين يدي الله ولا يد سواه تستطيع أو تقدر.
وشاهد الطفل في رحلة اختطافه جنازة صورية للمسيح فعرفه بعينيه وتعرف عليه لأول مرة فأحب صورته وكأنها النداهة فصار يتفحص صوره الموضوعة في كل أرجاء المكان من حوله وحلم بأنه ينزع عنه المسامير التي غرست في جسده النحيل ليحرره.. فيقوم ويمضي في طريقه حراً طليقاً بعيداً عن صليبه (و هو آلة التعذيب ) التي نكل به عليها وفقاً للرواية المسيحية .. فهذا ما كان يحلم به و يتمناه الطفل المختطف للمسيح الذي تعذب وتحمل آلام لا يحتملها بشر فتماهى معه .. فمن خطفوه وسجنوه في دينهم ومعتقلهم الديني سبق وأن خطفوا المسيح ذاته وصلبوه لأنه حاد عن معتقدهم! فمن يحيد عن معتقد الآخرين ينكلون به تقرباً للإله! و كان لمشهد الحلم ونزع المسامير من جسد المسيح على يد الطفل اليهودي دلالة كبيرة وعميقة وكأنه يعتذر ويصحح ما فعله بنو جلدته أيضا تقربًا للإله! و حاول الطفل المختطف في بادئ الأمر الفكاك مما هو فيه وكان يتلو الصلوات التي علمتها له أمه ليلا وفي السر وهو يخفي وجهه، وحن بفطرته لأمه عند زيارتها له لكن الاستقطاب الذي مورس معه وعليه كان أكبر منه ومن الجميع فعمليات غسيل المخ وإفساد الفطرة التي يمارسها دوما رجال الدين أقوى من أي شيء آخر. 
وتحولت قضية الطفل اليهودي المعمد عنوةً و خلسةً لقضية رأي عام تماما كما حدث في مصر مع الطفل (شنودة) الذي انتزع من أحضان أبويه بالتبني حتى أنصفه القضاء المصري وفقه الأئمة المستنيرة وأن الطفل لمن وجده وأنه على دين من وجدوه وربوه إن كان يتيماً وإن دين الفطرة ليس بالضرورة هو الإسلام أو المسيحية أو اليهودية فجميعها أديان الله ولا فرق بين دين وغيره ولا فضل لدين على آخر ومن يؤمن حقاً بالإله الواحد الأحد يؤمن بكل كتبه ورسله ولا يفرق بين أحد من رسله أو كتبه.. تلك هي الفطرة السليمة التي جبل عليها الإنسان قبل أن تتدخل الثيوقراطية لتفسد علينا فطرتنا وحيواتنا لنشقى ونضل الطريق في حين أن كتب الله ما نزلت علينا وما أرسل لنا رسله لنشقى.. وهكذا نشأ وترعرع الطفل في حاضنة جديدة فرضت عليه وتبناه البابا بنفسه.

 وأفيش الفيلم عبّر بصدق عن تلك الحالة العجيبة من الاستقطاب التي مورست باسم الإله على الطفل وأسرته فظهر الطفل يجلس على حجر بابا روما آنذاك وابتسامة النصر تعلو وجهه معتقداً أنه انتصر وقدم خدمة جليلة للإله وخلص الطفل وضمه للمسيحية ليخلد في الملكوت.. وتمكنت تلك الأفكار من الطفل وتغلغلت لعقله وروحه حتى صار مبرمجاً وكبر الطفل ولم يعد طفلاً وانغمس في المنظومة ونسي إخوته وأمه و رفض أن يرى أباه اليهودي ولم يحضر جنازته لأنه ضال .. ضل عن طريق المسيح وظل يهوديا حتى رحل فصار ملعونا وطريد الفردوس ولن ينعم بالملكوت وفقاً لمعتقد الطفل الجديد الذي شب على تلك الأفكار الإقصائية الفاسدة الدوجماوية التي لا تقبل الآخر وتلفظه لأنه من فريق آخر! وكأننا في مباراة أو مبارزة لا حياة تتسع للجميع وخلقها الله للجميع وجعلها حقاً للجميع. 
وعلى الجانب الآخر تحركت الآلة والدعاية اليهودية من أجل تدويل قضية الطفل اليهودي المختطف وتحرك يهود العالم خصوصا في أمريكا لتشويه البابا وشنت الصحف التي يسيطر عليها اليهود حملةً ضد البابا ورسم الكاريكاتير المسىء له والذي يسخر منه و يتوعده فطاردته الكوابيس وكان أكبر كابوس يطارده هو كابوس الختان .. فصور اليهود عملية ختان للبابا في الكاريكاتير وكان الأمر مرعباً له وكان يفيق معتقداً أنهم فعلوا فيه هذا الشيء وأن سريره تملؤه الدماء حتى مرض البابا ووهن وبعد رحيله لم يرحمه المستقطبون من الجانب الآخر (اليهود) وهاجموا جثمانه وأخرجوه من تابوته لينكلوا به ورفضوا  دفنه وكان معهم الشاب الذي صار من فريق البابا ولم يعد طفلهم اليهودي المختطف ومارس التقية كي يفلت من بطشهم فسب البابا وهرب لينجو بنفسه لكنه ظل على ما شب عليه و ترعرع وهو الذي لعق الأرض تحت أقدام  البابا عندما أمره بذلك في إحدى المرات ليختبر ايمانه و تسليمه له ،، وكان  البابا في حقيقية الأمر يختبر مدى انبطاحه وانسحاقه وبالفعل انبطح  الشاب وصار كلياً ملكاً للبابا ورجاله فرسم الصليب بلسانه على الأرض تحت أقدام البابا ليؤكد مسيحيته وتخلصه التام من عقيدته اليهودية والتي تخلص معها من حبه الفطري لعائلته وأمه  التي زارها فقط عندما علم باحتضارها وجاءه شقيقه الذي لم يعد في نظره شقيقه لأن أخاه من وجهة نظره الجديدة هو أخوه في الدين وأخوه في الله فصلات الدم لم تعد تمثل شيئا بالنسبة له. 
ما يعنيه هو أخوه في دينه لا أخوه ابن أبيه وأمه فهكذا يفعل بنا الأصوليون المستقطبون من أي دين.. فيجعلوننا ننسى أنفسنا وأهلنا وكل شيء ويهون أمامنا كل شيء في سبيل الانتساب للدين فيصير أخونا هو من على ديننا أما صلة الدم أو الانتماء للوطن أو للإنسانية فهي أمور لا تعني المستقطبين  الأصوليين ولا يلتفتوا إليها.. الدين لديهم يعلو فوق كل القيم وفوق كل شيء بل وفوق الإنسانية وفوق الأوطان وفوق الأنساب وفوق مشاعر البنوة والأبوة باختصار المعتقد يعلو حقاً فوق كل شيء! 
فذهب الشاب المسيحي بعد أن صار أصولياً وشب على أيادي الأصوليين لأمه اليهودية التي تحتضر على فراشها ومعه زجاجة فيها ماء يراه مقدساً ويرى  فيه الخلاص .. ذهب و هو لا يشتاق إليها ..  ذهب فقط ليخلصها و يضمن لها الملكوت بعد تعميدها بقطرات من الماء..  لأنه آمن بأن قطرات الماء التي وضعت على جبينه و هو طفل قد خلصته .. فأراد تعميدها كما عمد هو وتجرد من أي مشاعر ولم يعد لديه سوى مشاعر الانتماء الديني فحزنت الأم حزناً قضى عليها  حتى لفظت أنفاسها بعد أن قالت له لقد ولدت يهودية وعشت يهودية وسأموت وأنا يهودية وبالفعل ماتت الأم على دين فطرتها. 
وصرخ فيه أشقاؤه وشقيقاته اللاتي فرحن بمجيئه في بادئ الأمر حتى غضبن وصدمن فيه وقد أتى لهم ليس مشتاقا لهم أو لأمه وهي تواقة للقائه بل جاء فقط ليضع قطرات الماء المقدس على جبينها وخرج الأخ من بيت أمه و إخوته الذين لم يعودوا إخوةً له وعاش هكذا حتى رحل وحيدا غريبا في بلجيكا وترك روما والفاتيكان بعد رحيل البابا الذي خطفه وتبناه واستقطبه فصار ظلاً له ومسخاً لا حول له ولا طول وأمد الله في عمره ليمت عجوزاً وحيداً غريبا في أرض ليست أرضه وبين أناس ليسوا منه لكنهم يدينون بدينه الجديد وهذا كان ما يريده أو ظن أن ذلك حقاً اختياره الحر الحقيقي في حين أنه كان المختطف طفلاً وشاباً وشيخاً مسناً
خطف الخاطفون روحه وعقله وعاش ورحل وهو أسير لخاطفيه ومعتقدهم.