رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عايز أَلِف مصر

من حوالى تلاتين سنة.. ربما أقل بعام أو عامين.. كنت نازل من مقر مجلة الإذاعة والتليفزيون المؤقت فى مبنى دار الهلال.. كانت المجلة تؤجر دورًا هناك فى المبنى العتيق قبل أن تغادره وتعود إلى مبنى ماسبيرو التاريخى.. ولفت نظرى وجود كراتين كتب جديدة تدخل إلى المكتبة فى الدور الأرضى.. محبة الكتب دفعتنى للوقوف.. للانتظار حتى ينتهى العمال من فرش الهدايا الجديدة.. كنت أعتبر أى كتاب جديد هدية.. مع كل قبض أنزل للمكتبة وأختار من بين الجديد.. ولأن عمال المكتبة أصبحوا عِشرة كانوا يحجزون لى نسخًا مما يعتبرونه حاجة لقطة.. وغالبًا ما كانت اختياراتهم مفرحة.. المهم عرفت أن كتابًا مهمًا قد أتى.. وأنه لا داعى للانتظار.. سوف يحجزون لى نسختى.. قالها العامل ثم أضاف.. بس ده أربع مجلدات.. ما تتأخرش بكرة.. الطبعة محدودة وده جمال حمدان.. ما بيستناش.. وقد كان.. ومنذ قرأت ذلك الكتاب الساحر الذى حولت بعض أفكاره لبرنامج إذاعى قصير عام ١٩٩٤ كتاب شخصية مصر.. صار عندى حلم.. الكتاب موسوعة علمية هذا ما يعرفه الكل.. سياحة فى جغرافيا وتاريخ مصر.. لكن ما تركه داخلى رغبة أكبر من المعرفة.. أريد أن ألمس بعينى ويدى ما هو وراء كل حرف فى هذه الكتابة الساحرة عن مصر، التى أصبحت أكبر وأوسع من قدرتى على التخيل منذ قرأت لذلك الرجل.. وأقولها بأريحية لم يستطع أى برنامج فى مصر أن يترك واحدًا فى المليار من أثر مثلما تفعل بك وفيك أسطر الساحر جمال حمدان. 

فى فترة ثانوى وجامعة سمحت لى ندوات الشعر بأن أنتقل لأكثر من بلد.. أسوان.. قنا.. أسيوط.. المنيا.. الفيوم.. الإسكندرية.. وبعدها.. ذهبت إلى الوادى الجديد.. السويس.. الإسماعيلية.. كفر الشيخ.. البحيرة.. وعشت فى القاهرة والجيزة لسنوات.. لكننى وفى كل مرة أعود فيها إلى قريتى فى سوهاج وأرصد ما حدث فيها من تغير أدرك أننى لم أذهب بعيدًا.. ولم أعرف شيئًا عن مصر.. مصر العمران والشعر والغناء.. التضاريس والناس والمعابد.. الطعام والشراب والملابس.. الحزن والفرح وما بينهما.. مصر العواجيز والصبايا والأطفال.. الفلاحين والصناع والصيادين والذين هم بلا عمل.. مصر الشوارع والأسقف والحيطان.. النباتات والأشجار والروايح... الجبال والكنوز والرمال.. البحر واللون وما بينهما من أسرار.. الأساطير والخرافات.. الأرقام والمواليد وسير الأولين.. المقابر والأضرحة.. اللوحات والجدران.. الحر والبرد.. الريح والسكون.. الطرق والسيارات.. الحيوانات والطيور.. كيف يا الله يمكننى أن أعرف.. أشعر.. أحس.. كيف لى أن أعيد قراءة كل هذه التفاصيل.. مصر كبيرة جدًا.. ومتنوعة جدًا.. وغنية جدًا.. وعصية جدًا.. ولينة وطيبة جدًا.. من أين لى بكل تلك الأعمار لأمشيها من أول وجديد. 

كلما انسحب العمر.. أشعر بابتعاد الحلم.. فأقوم بتعديله.. وأشطب بعض الاختيارات.. لكننى أعود وأضيف اختيارًا جديدًا.. فيصبح الأمر أكثر تعقيدًا.. أظن أن الدكتور جمال حمدان لو كان بيننا الآن لشعر بنفس حيرتى.. قطعًا لم يكن ليشعر بنفس العجز الذى أشعر به الآن.. لكنه حتمًا كان سيغير من كتابه.. كان سيضيف إليه عشرات الكتب الجديدة التى تفصح عن سيرة جديدة لهذه الكبيرة التى لا تتوقف عن التمدد.. هذه التى لا حدود لطغيانها.. الطيبة الصابرة الساحرة.. لا تكشف عن نفسها كاملة أبدًا.. ربما تكشف عن بعض أوجهها للخلصاء المحبين.. بعض المحبين ممن تصطفى.. لكنها لا تبوح بأسرارها كاملة أبدًا.. ومن يتخيل غير ذلك واهم.. واهم.. واهم.. ومن يتخيل أننى تخليت عن الحلم الذى يراودنى واهم أيضًا.. فالأحلام تقبل التأجيل أحيانا لكنها مثل مصر لا تقبل النهايات.