رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تطويق الخصوم.. لماذا دعا بايدن قادة اليابان وكوريا الجنوبية إلى قمة ثلاثية فى واشنطن؟

أعلام الولايات المتحدة
أعلام الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية

كثيرةُ هي التقلبات التي تعتري بيئة العلاقات الدولية الراهنة، وسريعة أيضا. فعدو الأمس قد يغدو صديق اليوم، والحليف ربما يتحول إلى خصم إذا اقتضت "المصلحة"، فالثابت أنه لا ثابت في السياسة.

هذه القاعدة تؤكدها دعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن على هامش أعمال قمة مجموعة السبع الكبرى التي انعقدت في اليابان على مدار الأيام الثلاثة الماضية، لكل من رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا والرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، إلى قمة ثلاثية في واشنطن، رغم الخلافات التاريخية والإرث العدائي الطويل الممتد لأكثر من 100 عام، بين طوكيو وكل من واشنطن وسيول.

يرجع المحللون السبب الرئيسي لتلك الدعوة إلى التحديات الكبرى التي تفرض على الأسرة الدولية ضرورة تجاوز أي خلافات، والعمل على مواجهة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد والأمن الدوليين من ناحية، وتحجيم التهديدات النووية المتصاعدة التي تحدق بالعالم من ناحية أخرى، وهو ما يفسر سبب انعقاد قمة الدول السبع في مدينة هيروشيما اليابانية، آخر ساحات المواجهات العسكرية في الحرب العالمية الثانية بعد تعرضها لقصف نووي أودى بحياة عشرات الآلاف من الضحايا. اختيار هيروشيما مكانًا لانعقاد القمة وزيارة قادة الدول السبع الكبرى للنصب التذكاري لضحايا القصف النووي، حمل رسالة واضحة لا تحتمل اللبس، فما بين التذكير بمآسي الصراعات المسلحة وخطورة استخدام النووي، "يبقى على العالم اختيار الدمار أو الإعمار".

الغرض الأمريكي من وراء الدعوة

يرى الكثير من الخبراء أن ما يعيشه العالم حاليًا من اضطرابات على مختلف الأصعدة، ما هي إلا انعكاسات لأوجه الصراع المكتوم بين واشنطن وبكين، وبحسب هؤلاء الخبراء فإن "الخناقة" الأمريكية الحقيقية ليست مع روسيا، إنما مع الصين، تلك القوة الاقتصادية والعسكرية الجبارة التي تزاحم بقوة أمريكا ومن خلفها السبع الكبار على قيادة النظام العالمي، والدائن الأكبر للولايات المتحدة في الوقت ذاته بحجم مديونية يقترب من التريليون دولار، ولهذا السبب تحديدًا قررت واشنطن تركيز الوجود الأمريكي سياسيًا وعسكريًا في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ ربما على حساب وجودها في مناطق أخرى من العالم كالشرق الأوسط، لتطويق التنين الصيني هناك حيث يحتدم التنافس على تعزيز النفوذ بين العملاقين في الدول الجزرية التي لم تحظ باهتمام كبير من القوى العظمى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ولهذا الغرض تحاول واشنطن باستمرار نسج علاقات قوية مع القوى الإقليمية المنافسة للصين في المنطقة، وفي مقدمتها اليابان وكوريا الجنوبية اللتان تربطهما حاليًا علاقات متوترة مع بكين، نظرًا لموقف الأخيرة من الحرب الروسية الأوكرانية، ودعمها لتجارب كوريا الشمالية النووية.

جيوب الخلاف المزمن

لم يستطع العالم التخلص من كل بؤر الصراع بالسلاح، وتركت الحرب العالمية الثانية وراءها ثلاثة جيوب مزمنة للصراعات الدولية في ثلاثة أقاليم مختلفة من العالم، تشترك جميعها في الأهمية الجيواستراتيجية، كان أولها قضية الجوار بين أوروبا والاتحاد السوفيتي، ومحاولة كل منهما السيطرة على شبه جزيرة القرم المهمة للربط الملاحي بين شرق القارة العجوز وغربها، واللازمة لحصار الاتحاد السوفيتي داخل حدوده إن لزم الأمر، وثانيها قضية الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي، وثالث تلك الجيوب الذي صعد مؤخرًا إلى قمة أولويات السياسة الأمريكية هو بحر الصين الجنوبي.

وبحر الصين الجنوبي هو أحد أكبر البحار في العالم بعد المحيطات الخمسة. يُعتبر جزءًا من المحيط الهادئ ويمتد من سنغافورة ومضيق ملقة إلى مضيق تايوان، ويشكل واحدًا من الشرايين التجارية الرئيسية التي تربط ممرات الملاحة المائية في العالم حيث يمر عبره نحو ثلث حركة التجارة العالمية، كما يحتوى على مخزونات هائلة من النفط والغاز، وهو منطقة محتملة لتصاعد التوترات العسكرية بين الولايات المتحدة والصين، فالدلائل البارزة لهذا الاحتمال تظهر في التصريحات الأمريكية الحادة الداعمة لمواقف الدول الأخرى في المنطقة مثل كوريا الجنوبية واليابان والفلبين وفيتنام، بأن بحر الصين الجنوبي هو ممر ملاحي دولي مفتوح، بينما تُصر الصين باستمرار على أنه جزء من أراضيها ومياهها الداخلية، وهو ما يفسر موقفها تجاه تايوان التي تصر على الاستقلال بدعم أمريكي.

وفي دراسة من 47 صفحة وجهت الولايات المتحدة في نوفمبر الماضي انتقادات قوية لمطالب الصين في بحر الصين الجنوبي، معتبرة إياها غير قانونية ومتجاوزة للقواعد الجغرافية والتاريخية المعترف بها، حيث أكد مكتب وزارة الخارجية الأمريكية للمحيطات والشئون البيئية والعلمية الدولية أن الصين لا تمتلك أي أساس قانوني وفقًا للقوانين الدولية لمطالبها التي تتعارض مع الفلبين وفيتنام والدول الأخرى في جنوب شرق آسيا، وأن تلك المطالب تعمل على زعزعة الاستقرار وتصعيد التوترات في المنطقة.

ويتجاوز الأمر مجرد تبادل التصريحات العنيفة، فمحاولات الهيمنة على بحر الصين الجنوبي تؤكدها التدريبات البحرية والمناورات العسكرية التي يجريها الطرفان لفرض أمر واقع على المنطقة، ومن هذا المنطلق قررت الولايات المتحدة قيادة تحالف استراتيجي بين فيتنام والفلبين واليابان مخططات الصين، بينما قررت الأخيرة التوسع في استراتيجية طويلة المدى تتمثل في امتلاك القوة من خلال تأسيس قوة بحرية ضاربة قادرة على ردع الأسطول الأمريكي دون الحاجة للدخول في مواجهات مباشرة.

أوجه الصراع المكتوم

صانع السياسة الأمريكية دائمًا ما يحدد أولويات بلاده بثلاث محددات رئيسية على الترتيب: اعتبارات الأمن القومي، المصالح الوطنية، القيم الأمريكية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن هنا يتضح أن النزاع على بحر الصين الجنوبي ليس الوجه الوحيد للصراع المكتوم بين واشنطن وبكين، فأسباب الخلاف كثيرة ومتنوعة عبر مجموعة واسعة من القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية منها مثلًا:

أ. التجارة والاقتصاد: دائمًا ما تتهم واشنطن بكين بمحاولات السيطرة على الاقتصاد العالمي من خلال أساليب ملتوية مثل تخفيض سعر العملة المحلية لإغراق الأسواق العالمية بالمنتجات الرخيصة نسبيًا، فضلًا عن انتهاك حقوق الملكية الفكرية، والتبعية الصناعية والمنافسة غير العادلة، وأشياء أخرى تبرز المخاوف الأمريكية من هيمنة الصين اقتصاديًا.

ب. القضايا الإقليمية: اختلافات الرؤى والمواقف بشأن العديد من القضايا الإقليمية أخرى مثل الأزمة النووية في شبه الجزيرة الكورية والأزمة في هونج كونج تؤدي إلى توترات إضافية في العلاقات بينهما.

ج. حقوق الإنسان: دائمًا ما تستخدم واشنطن ورقة الإصلاح الديمقراطي وحقوق الإنسان كأداة ضغط لتعزيز مواقفها التفاوضية ضد خصومها، ولذلك كثيرًا ما تلوح الإدارة الأمريكية بانتهاكات حقوق الإنسان في إقليم "تبت" و"شينجيانج" وقضايا الحريات الأساسية والتعذيب والاعتقال التعسفي، بشكل تعتبره الصين تدخلًا غير مقبول في شئونها الداخلية.

د. التكنولوجيا والأمن السيبراني: تشمل الخلافات في هذا المجال تجسس الصين على الشركات الأمريكية وسرقة الملكية الفكرية والتحديات المتعلقة بأمن الشبكات والهجمات السيبرانية، وتعتبر واشنطن هذه القضايا مصدر قلق حقيقي بشأن الأمان والخصوصية والابتكار التكنولوجي، الذي ربما يعرقل مسيرة الاقتصاد العالمي ككل، ويلغي الاعتماد على أسواق المنافسة الكاملة، ويقوض اتفاقات التجارة الحرة.

من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية تتبع استراتيجية شاملة تجمع بين العناصر السياسية والاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، لتقويض صعود الصين، وحماية عرش زعامة النظام العالمي من المطامع الصينية، ففي الجانب السياسي، تعمل واشنطن على تشكيل تحالفات قوية مع الدول المشاركة في النظام الدولي للدفاع عن الحقوق والقيم الديمقراطية. وفي المجال الاقتصادي، تعتمد الولايات المتحدة على سياسات تجارية حمائية وتنفيذ رسوم جمركية لتحقيق توازن التجارة مع الصين وحماية الصناعات الأمريكية الحساسة.

أما من الناحية العسكرية، يستثمر الأمريكيون في قدراتهم العسكرية وتعزيز التعاون الأمني مع حلفائهم لتعزيز الردع واستقرار الأوضاع على ما هي عليه. وأخيرًا، في المجال الدبلوماسي، تعمل الولايات المتحدة على تنسيق الجهود مع الشركاء الدوليين لزيادة الضغط الدبلوماسي على الصين، والعمل على حل النزاعات بطرق سلمية وتعزيز الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان باعتبارها أحد التكتيات المهمة لإملاء التوجهات الأمريكية على بقية دول العالم.