رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مسقط- القاهرة.. زيارة سلطانية تاريخية

على رأس وفد رفيع المستوى، حلّ السلطان هيثم بن طارق ضيفًا عزيزًا على القاهرة، أمس الأحد، لأول مرة منذ جلوسه على عرش سلطنة عُمان، فى يناير ٢٠٢٠، خلفًا للسلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله. ومع كونها الزيارة السلطانية الأولى لأول دولة عربية خارج مجلس التعاون الخليجى، فإنها تأتى، أيضًا، بعد شهور قليلة من احتفال مصر والسلطنة الشقيقة بمرور نصف قرن على بدء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

العلاقات المصرية العُمانية التجارية والاقتصادية، والسياسية أيضًا، بدأت منذ أكثر من ٣٥٠٠ سنة، وتعززت وترسخت، قبل وبعد قيام سلطنة عُمان الحديثة، بمواقف عديدة لا ينساها التاريخ، كان من بينها إدانة السلطنة للحملة الفرنسية على مصر، وصولًا إلى رفضها قطع العلاقات أو سحب سفيرها من القاهرة، حين قررت بعض الدول العربية أن تفعل ذلك، فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، اعتراضًا على زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات للقدس. إذ يذكر التاريخ لـ«سلطان بن أحمد بن سعيد» أنه أعلن عن استيائه من الحملة الفرنسية، واحتج رسميًا على اعتداء فرنسا على دولة عربية مسلمة، وأمر بإيقاف المفاوضات التى بدأت سنة ١٧٩٥ لإنشاء قنصلية فرنسية فى مسقط. وكان هذا الأمر أو القرار، هو رده على رسالة وصلته من نابليون بونابرت، فى٢٥ يناير ١٧٩٩، يتعهد فيها بأن تتمتع جميع السفن العمانية بحمايته حال وصولها إلى السويس.

على هذا النهج، استمرت العلاقات مع قيام سلطنة عمان الحديثة، فكانت إلى جوارنا خلال العدوان الثلاثى سنة ١٩٥٦، وساندتنا فى حرب يونيو ١٩٦٧. ومع تولى السلطان قابوس مقاليد الحكم، فى٢٣ يوليو ١٩٧٠، كشفت كل مواقف السلطنة تجاه مصر عن مودة حقيقية لشعبها، وعن احترام كامل ومطلق لسيادتها وإرادتها وحقها فى اختيار ما تراه مناسبًا لحاضرها ومستقبلها، وبالصوت والصورة، رأينا السلطان قابوس بن سعيد، فى ١٨ نوفمبر ١٩٨٤ يقول فى كلمته بمناسبة العيد الوطنى الرابع عشر للسلطنة: «لقد ثبت عبر مراحل التاريخ المعاصر أن مصر كانت عنصر الأساس فى بناء الكيان والصف العربى، وهى لم تتوان يومًا فى التضحية من أجله والدفاع عن قضايا العرب والإسلام، وإنها لجديرة بكل تقدير».

 

الزيارة السلطانية، التى تستغرق يومين، والتى تأتى بعد ساعات من انتهاء القمة العربية الثانية والثلاثين، نرى أنها تهدف إلى تعزيز العلاقات وتطويرها، سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى أو التجارى أو الثقافى أو الاجتماعى، استكمالًا لما حققته زيارتا الرئيس السيسى للسلطنة فى فبراير ٢٠١٨، ويونيو الماضى، والاتصالات المتبادلة بين زعيمى البلدين. كما تهدف أيضًا، أو طبعًا، إلى تأسيس مزيد من قواعد العمل المتكامل، وبناء توافق عربى للتعامل مع التحديات والأزمات الإقليمية والدولية، التى تتطلب تضافر كل الجهود من أجل حماية الأمن القومى العربى والتصدى لمحاولات التدخل فى الشئون الداخلية لدول المنطقة. كما تأتى، بحسب البيان الصادر عن ديوان البلاط السلطانى، «امتدادًا للعلاقات التاريخية التى تربط السلطنة ومصر، وتأكيدًا لحرص قيادتى البلدين على توثيق تلك الروابط الراسخة بينهما»، وتستهدف بحث «جميع جوانب التعاون التى من شأنها أن ترتقى بالعلاقات الثنائية»، إضافة إلى «التشاور والتنسيق بين القيادتين بما يسهم فى تعزيز العمل العربى المشترك وبحث مختلف التطوّرات على الساحتين الإقليمية والدولية».

هناك، إذن، هدفان رئيسان للزيارة: تعزيز العلاقات الثنائية بين القاهرة ومسقط، ومناقشة تطورات عدد من القضايا العربية والإقليمية والدولية، وعلى رأسها الأزمة اليمنية، فى ضوء التوافق القائم بين الزعيمين على أهمية تعزيز التنسيق بين البلدين، لدعم وحدة وسيادة الدولة الشقيقة وسلامة مؤسساتها الوطنية، وصولًا إلى تسوية سياسية مستدامة تنهى معاناة الشعب اليمنى وتلبى طموحاته. ويمكنك أن تضيف أو تستنتج هدفًا ثالثًا يتعلق بتطورات العلاقات العربية مع إيران، خاصة بعد الاتفاق السعودى الإيرانى، الذى تم التوصل إليه فى بكين، الذى يتضمن استئناف العلاقات الدبلوماسية. والإشارة هنا مهمة إلى أن السياسة الخارجية العمانية تقوم على مبادئ استراتيجية محاورها الأساسية هى عدم التدخل فى الشئون الداخلية والسعى الدءوب إلى حل القضايا وتقريب وجهات النظر عبر الحوار والطرق السلمية، انطلاقًا من إيمان السلطنة بالسلام منهجًا لسياستها الداخلية والخارجية، وحرصها على توثيق التعاون والصداقة مع الجميع، بصورة لا ضرر فيها ولا ضرار.

إلى جانب التوافق العمانى المصرى إزاء كل القضايا الإقليمية والدولية، وحرص البلدين على تعزيز العمل العربى المشترك، أكد الرئيس السيسى فى سياقات ومناسبات مختلفة اعتزاز مصر بعمق ومتانة العلاقات الاستراتيجية مع السلطنة الشقيقة، وثمّن مستوى التنسيق القائم ووحدة الرؤى بين البلدين حول القضايا ذات الاهتمام المتبادل، وأعرب عن حرصه على دفع التعاون الثنائى إلى آفاق أرحب فى شتى المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والتجارية. كما سبق أن أشاد السلطان هيثم بن طارق بالروابط الأخوية الوثيقة والتاريخية التى تجمع البلدين، وأعرب عن تقديره الجهود المصرية الداعمة للشأن العمانى على كل الأصعدة، والدور المصرى البارز فى تعزيز آليات العمل العربى المشترك فى مواجهة الأزمات والتحديات الراهنة، وأكد حرص السلطنة على تعزيز أطر التعاون الثنائى فى مختلف المجالات، وزيادة الاستثمارات العمانية فى مصر.

 

بنسبة ٦٥٪ تقريبًا، ارتفعت قيمة التبادل التجارى بين مصر وسلطنة عمان لتسجل ١.١ مليار دولار خلال سنة ٢٠٢٢، مقابل ٦٥١ مليون دولار خلال ٢٠٢١، وهناك رغبة جادة، ومتبادلة، فى بناء شراكة متنامية، أكدتها ست مذكرات تفاهم واتفاقيتان وثلاثة برامج تنفيذية ورسائل تعاون، جرى توقيعها، فى يونيو الماضى، خلال زيارة الرئيس العاصمة العمانية، شملت مجالات تعزيز المنافسة ومكافحة الممارسات الاحتكارية وترويج الاستثمار وتنمية الصادرات والنقل البحرى والموانئ وإنشاء وإدارة المناطق الصناعية وحماية البيئة والاعتراف المتبادل بالشهادات الأهلية البحرية للملاحين وأعمال النوبة، بالإضافة إلى التعاون العلمى وبرامج تنفيذية للتعاون فى مجالات الشباب والرياضة والعمل والتدريب والتعليم العالى والبحث العلمى والابتكار، و.... و....وفى إطار خطة التدريبات المشتركة لقواتنا المسلحة مع نظيراتها فى الدول الشقيقة والصديقة، أقامت القوات الخاصة المصرية والعمانية، منتصف سبتمبر الماضى، التدريب المشترك «قلعة الجبل»، لتبادل الخبرات القتالية للجانبين وتحقيق الدمج والتجانس بين القوات المشاركة لتوحيد المفاهيم وصقل المهارات والتدريب على تنفيذ دوريات استطلاع الكمائن والإغارة وأعمال القتال فى المناطق الجبلية.

أيضًا، كانت اللجنة «المصرية العُمانية» المشتركة، ولا تزال، آلية مهمة لتعزيز التعاون الاقتصادى بين البلدين، وإحدى الخطوات المهمة فى تنشيط وتفعيل أطر ومجالات التعاون فى كل المجالات. ويكفى أن تعرف مثلًا، أن سفارة السلطنة بالقاهرة استقبلت ٨٠ وفدًا رسميًا عُمانيًا خلال النصف الثانى من ٢٠٢٢، وتفعيلًا للدبلوماسية الاقتصادية التى نصت عليها رؤية «عُمان ٢٠٤٠»، وتنفيذًا لتوجيهات السلطان هيثم بن طارق بتعظيم التنوع الاقتصادى، عقدت تلك الوفود لقاءات مع مستثمرين مصريين، مع كبرى الشركات المصرية فى مجالات الطاقة والطباعة والعقارات وخدمات الهندسة والإنشاء والضيافة وفى مجال إدارة المخلفات وإعادة التدوير، و... و... ومع رئيس هيئة الدواء المصرية، بهدف تصدير الأدوية المصرية إلى السلطنة، وقامت شركة نفط عُمان بتوقيع اتفاقية مع شركة مصر للبترول، لتسويق منتجات الشركة العُمانية فى مصر. كما تم توقيع بروتوكول تعاون بين شركة «زد العُمانية العالمية» والهيئة العربية للتصنيع.

.. وتبقى الإشارة إلى أن فرص التعاون المصرى العُمانى فى مختلف الأنشطة الاقتصادية، سيتناولها اليوم، الإثنين، الملتقى الاقتصادى الذى يجمع وزيرى المالية والتجارة والصناعة ورئيس جهاز الاستثمار بالسلطنة مع عدد من كبار المستثمرين ورجال الأعمال المصريين والعمانيين. استكمالًا للزخم الكبير الذى تشهده العلاقات ‏الاقتصادية المصرية العُمانية، وتأسيسًا على إيمان القيادة السياسية فى البلدين بأهمية تنمية وتوسيع حجم العلاقات المشتركة فى الوقت الراهن، وخلال المرحلة المقبلة.