رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذات.. الإنسان.. الآخرون

لا شك أن وراء كل أنواع الأدب تلك الذات المتفردة التى تبرز فيها خصوصية الفكر والتلقى والتعبير فيصبح الأدب تفاعلًا مثمرًا بين الذات والعالم الموضوعى، لكننا حين نتحدث عن «الذاتية» فى الأدب بمعنى انشغال الكاتب بنفسه وذاته، بحيث يسود التعبير عن همومه ومشاعره وتطغى لحد الانفصال عن الواقع، فإننا نتكلم عن طريق مسدود لا يفضى بالكاتب أو الأدب إلى شىء. الكاتب المهووس بذاته، والذى يعتقد أن عالمه الذاتى اكتشاف أدبى ضخم، يخسر موهبته حين يعتقد أن «الذات» حالة منفصلة عن الواقع وعن الطبيعة وعن الآخرين، ذلك أن كل إبداع ذاتى، علمى أو أدبى، هو قطرة يتجسد فيها عمل وحضور الآخرين. 

وحين يكتب الصحفى مقالًا ويزهو به، فلا بد أن يتذكر أن خلف ذلك المقال عمال مطابع، ومصانع ورق، ومصححًا لغويًا، وباعة صحف، وأيضًا قراء وإلا ما كان للمقال حضور واقعى. وعندما يتباهى أحد الموسيقيين بأنهم يعزفون عملًا له فى الأوبرا، فلا بد أن يتذكر أنه لخروج العمل إلى النور ثمت خمسون عازفًا يخلقون نغماته بأعصابهم، وثمت مصانع تنتج لهم الآلات الموسيقية، وعمال مسرح، وجمهور، ويشارك كل أولئك فى تحويل ما هو ذاتى إلى حقيقة موضوعية، وإلا لأصبح العمل فى طى النوايا الطيبة والمخطوطات التى يخطفها النسيان. الذات الإنسانية إذن، أيًا كان تعريفها، «روحًا»، أو «أنا» أو «نفسًا»، جزء لا ينفصم من جموع الإنسانية، لا يمكن عزلها عما حولها أو النظر إليها بصفتها معلقة فى فراغ. وحتى أجمل قصائد الحب- التى تبدو أمرًا ذاتيًا- كان لا بد لها من عامل خارجى ليثيرها، معشوقة أو شريكة ولو حتى فى الخيال. لم يكن الشاعر وحده، بمفرده، من يكتب. 

وعندما يغنى فنان مطرب بحساسية بالغة تكون خلف حساسيته ذكريات بعيدة، غرام منكسر، أغنيات مهد. دائمًا ثمت طرف آخر فى كل ذات، ولذلك رأى كارل يونج مؤسس علم النفس التحليلى أن الفنان أو الأديب يعبر عن حياة البشر النفسية من خلال «اللاوعى الجمعى» المتجذر فيه. وسنجد أن كل اختراع جديد يدهشنا به أحد العلماء ليس من اكتشافه وحده فى واقع الأمر، ولم يتوصل إليه بمفرده، أو بذاته، إنما هو ثمرة جهود عشرات أو مئات العلماء الذين سبقوه ومهدوا له الطريق بالنظريات والمحاولات. لكل ذلك يمكن القول إن «الذات» المفردة هى نحن جميعًا بطريقة خاصة، فى ترتيب مختلف، ومن ثم فإن كل مبدع هو ثمرة خاصة على شجرة الإنسانية، ترتوى منها، ولا يمكن عزلها عما حولها. 

وحتى عندما يعيش الإنسان طويلًا ويزهو بنفسه فلا بد أن يتذكر أن وراء تلك الحياة الطويلة علماء اخترعوا الأدوية والأمصال، ومصانع تنتجها، وأنه ليس بذاته يحيا، ولا بذاته يكتب، إنه دائمًا قطرة من بحر، وومضة من كون. وهو حتى على المستوى الفيزيائى البدنى لا يشكل ظاهرة منفردة، ففى بدنه توجد تقريبًا كل عناصر الطبيعة المحيطة: الحديد الذى يمكن لو استخرجناه من كل بدن أن نشكل منه مسمارًا قادرًا على ثقب الحائط، وعناصر أخرى، بل وحتى غبار النجوم فى صميم الجسم البشرى بنسبة تفوق تسعين بالمائة، وربما لذلك يمر علينا أحيانًا بشر نكاد نقسم أن وجوههم منيرة وأرواحهم مشعة!