رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأسئلة الصعبة فى حرب السودان

بداية الأسبوع المقبل تكون حرب السودان أكملت شهرها الأول، وبغض النظر عن متى وكيف ستنتهى، فإن الأمر المؤكد أنه بعد الهزة العنيفة التى أحدثتها، والتدمير الممنهج الذى شهدته البلاد، فلن تعود الأمور إلى ما كانت عليه بتمنيات غير واقعية. 

هناك أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات، وجهد كبير مطلوب لإعادة بناء ما دمره الاقتتال، ليس على صعيد الممتلكات العامة والخاصة فحسب، أو لتضميد جراح أهل الضحايا، بل أيضًا على صعيد معالجة الشروخ التى تفاقمت فى المشهد السودانى، وبشكل خاص فيما يتعلق بفك عقد الوضع السياسى المأزوم الذى قاد إلى الحرب.

المبادرة السعودية الأمريكية المقدرة سعت لمعالجة الوضع الإنسانى الضاغط، من خلال التوصل إلى اتفاق يضمن تحقيق هدنة تصمد لتيسير وصول المساعدات الإنسانية العاجلة، وإخلاء المستشفيات ومرافق الخدمات التى دخلتها قوات الدعم السريع، والانسحاب من المناطق السكنية، وإخلاء وسط العاصمة من المظاهر العسكرية، بما يحقق استئناف وتيرة الحياة، وبحيث تكون هذه الترتيبات خطوة أولى فى طريق تهيئة الأجواء لمفاوضات سياسية أوسع تهيئ لإعادة المسار الانتقالى إلى سكّته.

الوصول إلى المرحلة الثانية سيعتمد فى بعض جوانبه على الكيفية التى ستنتهى بها هذه الحرب فى ظل التطورات العسكرية الميدانية المتسارعة، لكن الأهم سيعتمد على مدى استفادة السودانيين من دروسها، لمعالجة كثير من الأخطاء التى أوصلتنا إلى هذه النقطة، إذا أردنا فعلًا تهيئة الأرضية لحلول سياسية وعسكرية تصمد، وتقود السودان إلى بر الأمان. مثل هذا الأمر يحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس، ومواجهة للحقائق العارية من دون رتوش أو مجاملات، ووضع مصلحة البلد فوق أى اعتبارات سياسية أو حسابات آنية. فأسوأ ما يمكن أن يحدث هو الاكتفاء باتفاق شكلى لوقف النار، يعيد الأمور إلى المربع الأول، بكل علاته.

السؤال الذى يدور فى أذهان الكثيرين هو ما سيكون عليه وضع قوات الدعم السريع بعد كل الذى حدث، وبعدما انهارت الثقة تمامًا بين قيادتها وقيادة الجيش، وبات من الصعب ترميمها. قد يقول قائل إن الاتفاقات والمصالحات يمكن أن تحدث بين أكثر الأطراف عداوة، وإن الحروب تنتهى عادة على طاولة المفاوضات حتى وإن كان هناك طرف منتصر. 

هذا صحيح، لكن فى الحالة السودانية الراهنة من الصعب الحديث بأى درجة من الثقة عن أنه يمكن أن يتحقق تعايش حقيقى بعد اليوم بين الطرفين، وحتى إن انتهت حربهما بصيغة تفاوضية، فإن «الدعم السريع» لن توجد بوصفها قوات رديفة. الدمج فى القوات المسلحة ضمن الضوابط المراعاة قد يكون هو أقصى ما يمكن أن تؤدى إليه المفاوضات، لكن حتى هذا الأمر تدور حوله أسئلة كثيرة فى ظل التطورات المتسارعة على صعيد العمليات العسكرية، وفى ظل القرار الذى صدر بحل قوات الدعم السريع. 

وفى كل الأحوال فإنه لن يكون واردًا استيعاب كل منتسبى هذه القوات، بل سيكون أى دمج مقيدًا بشروط وضوابط كثيرة وصارمة. 

قيادة الجيش أثارت أيضًا موضوع الأعداد الكبيرة من الأجانب، وبشكل خاص من غرب ووسط إفريقيا، الذين جندتهم «الدعم السريع» فى صفوفها، فهؤلاء لن يكون لهم بقاء ضمن أى صيغة تفاوضية أو غير تفاوضية، والحل الوحيد سيكون فى ترحيلهم. 

ترتبط بهذا الأمر معالجة قضية الوافدين الذين منحت لهم الهويات والجنسية بطرق مخالفة للشروط ومن غير استحقاق، وكان جزء من هذا العمل قد تسارع خلال السنوات الأربع الأخيرة ضمن مخطط لإحداث تغيير ديموغرافى بهدف السيطرة على مقدرات الدولة سياسيًا أو من خلال أعمال عسكرية.

أبعد من ذلك، هناك حاجة بعد أعمال النهب والتخريب الواسعة التى حدثت خلال هذه الحرب وقامت ببعضها عصابات ظلت تثير الرعب بين المواطنين منذ فترة، لمراجعة ملف الأعداد الكبيرة من «اللاجئين» الذين دخلوا السودان بطرق غير شرعية. وفى ظل عدم وجود أرقام رسمية دقيقة تراوحت تقديرات أعداد اللاجئين فى السودان بين ٨ و١٠ ملايين معظمهم من دول الجوار الإفريقى، يحتاج وجودهم إلى تمحيص وتنظيم. الانتهاكات الواسعة التى حدثت خلال الحرب، والانهيار الأمنى، ومظاهر السلب والنهب، وتدمير المرافق العامة والتعدى على حرمات البيوت، كلها عوامل تجعل السودانيين يقفون بلا شك فى صف إنهاء ظاهرة القوات الرديفة، والميليشيات وعصابات الشوارع والسلاح المنفلت، بحيث لا يكون هناك سلاح خارج سيطرة الدولة، أو أى وجود لعوامل تهدد الأمن والاستقرار.

بعيدًا عن موضوع مستقبل الدعم السريع، فإن السؤال الآخر المهم يتعلق بشكل العلاقة بين القوى المدنية والعسكرية، وكيف ستكون بعدما اعتراها من جراء هذه الحرب وملابساتها. ليس خافيًا على الناس أن العلاقة كانت متوترة أصلًا، إلى الحد الذى جعل تشابكاتها جزءًا من العوامل التى أسهمت فى اندلاع الحرب. فهل سيتمكن الفرقاء من المدنيين والعسكريين من ردم الهوة العميقة بينهما والجلوس للتوصل إلى رؤية توافقية، وخريطة طريق لاستعادة المسار الانتقالى إلى السكة التى انحرف عنها، واستكمال التحول المدنى الديمقراطى؟

الواضح أن الأمور لن تعود إلى حيث توقفت قبل ١٥ أبريل، وأن تغييرات ستحدث فى المشهد السياسى. الجيش كان يطالب، وأحسب أنه سيتمسك، بتوسيع دائرة التوافق حول أى اتفاق سياسى، وهو ما قد يتطلب رؤية جديدة من القوى المدنية تحصن السودان من تجدد واستمرار المماحكات والخلافات التى عصفت بالبلاد وأنهكتها طوال الأربع سنوات الماضية، وهيأت الظروف لاندلاع الحرب.

فليتعلم السودانيون أنه عندما تندلع الحروب تجلى الدول رعاياها، وحتى وإن غادر عدد من السودانيين، ففى النهاية ليس للناس إلا بلدهم، ولا كرامة لهم إلا فى وطنهم، إن حافظوا عليه حافظوا على عزتهم، وإن فرطوا فيه فلن يعرفوا إلا الذل والهوان. ولعل هذه الحرب تكون حافزًا للتفكير العميق للتعلم من تجارب الماضى وإخفاقاته، لبدء إصلاح حقيقى وجذرى يضمن الأمن ويحقق الاستقرار، وينهى دوامة الانقلابات وعسكرة السياسة، بما يرسخ التداول السلمى على السلطة. إذا تحقق ذلك وقتها يمكن للسودان أن ينعتق من قيود التخلف الذى أصابه، ويوظف موارده الهائلة لتنمية شاملة ومتوازنة تنهض بكل أطرافه ومكوناته. هذا كله يعتمد على ما سيحدث بعد أن تنتهى هذه الحرب، وهى ستنتهى فى وقت غير بعيد خلافًا لكثير من التوقعات. فإن توافق الناس على فترة انتقالية لا تقل عن ثلاث سنوات فى تقديرى، وعكفوا على إعادة البناء ووضع اللبنات لحكم مدنى راسخ، بمؤسسات قوية، وتحقيق ما نسمعه عن خروج الجيش من السياسة بشكل نهائى ليتفرغ لمهامه الأساسية بصفته جيشًا وطنيًا مهنيًا لا تلطخه أو تشغله مماحكات السياسة وألاعيبها، وقتها يمكن أن نقول إننا بدأنا نورًا فى نهاية هذا النفق المظلم. فالبديل هو استمرار الموت البطىء للسودان والمضى فى طريق نهايتها التقسيم والتقزيم.

نقلًا عن «الشرق الأوسط»