رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأفروسنتريك.. من العبودية للاحتلال

الأفروسنتريك، والتي تقول بمركزية إفريقيا وتفوق العنصر الأسود على الأبيض؛ هي حركة عنصرية تريد جعل العالم والحضارات أقرب لرقعة شطرنج وساحة للصراع والتطاحن والاقتتال بين العنصر الأسود- الذي تراه متفوقاً- على أصحاب البشرة البيضاء!

فالرجل الأبيض الذي استعمر واستعبد أصحاب البشرة السمراء لعقود هو عرضةً الآن لذات الاستعباد والسطو على أراضيه وحضارته وكأنه لابد وأن يكون هنالك أسياد وعبيد. 
أسياد كانوا بيضاً فأصبحوا اليوم سودًا وعبيد كانوا سوداً فأصبحوا اليوم بيضًا!

وتساعد عقدة الرجل الأبيض الذي يريد التطهر وغسل أياديه وذنوبه بعد سنوات من الهيمنة الاستعمارية وإرث طويل من الرق والعبودية في الانبطاح لأصحاب البشرة السمراء ممن يريدون تسويد الحضارات وجعلها سيدة على حضارات الأرض، بل وأصل الحضارة والعرق النقي! وكما طمس الاستعمار والعبودية حضارة إفريقيا وإسهاماتها يريد أنصار تلك الحركة الآن محو حضارات غيرهم والسطو عليها ويفعلون ذلك مع الحضارة المصرية القديمة ومع الحضارة اليونانية المقدونية وعلى قدم المساواة. 
ضاربين عرض الحائط بالعلم وأسانيده وأبحاث علماء المصريات وتحليلهم للحامض النووي للمومياوات المصرية والذي أثبت حملها لجينات مصرية خالصة لا علاقة لها بإفريقيا السوداء.. وحتى السمرة التي تجمل وجوه أهل الجنوب المصري فلا علاقة لها بالعرق الإفريقي الأسود.

وغير ذلك يعد افتئاتاً وقلباً للحقائق ولياّ لذراع الحقيقية.. فحقائق الأفروسنتريك مختلفة.. هم يكذبون على أنفسهم بمهارةٍ مدهشة حتى صدقوا كذبتهم الكبيرة وصار لديهم إنكار للواقع وللعلم  يثير الشفقة. 
فجعلوا المصريين القدماء سودانيين وأفارقة سود! وجعلوا الحضارة المصرية حضارة إفريقية سوداء! 
وهو ما يثبت أن  تلك الحركة تؤمن بالنزعات العرقية وتفاضل بين الأعراق.
فالتمييز العنصري مورس لصالح البيض ضد السود ويمارسه السود اليوم ضد البيض بنفس الغلو وبذات الغبن والتبجح الذي لا يتفق مع معايير الإنسانية ومواثيق حقوق الإنسان المتفق عليها دوليا.
وصارت الحرب على اللون! في حين أن الحرب الحقيقية لابد أن تكون ضد حركة الأفروسنتريك لا ضد البشرة السمراء أو البيضاء. 
فالحركة إلى جانب عنصريتها هي حركة راديكالية انفصالية ذات بعد استعماري تهدف لتكوين حركة إمبريالية تسوق المبررات لتبرير ما لا يبرر متشدقةً بشعارات فارغة وطنانة تقول بالحق في مياه النيل تارة والحق في الأرض تارةً أخرى! فللحركة في الباطل مآرب عدة ويمكن وبمنتهى الأريحية، بل والموضوعية تشبيهًا بالحركة الصهيونية التي سطت على فلسطين..  وما فعلته أيضاً أمريكا مع الهنود الحمر "السكان الأصليين". 
لذلك تساند الصهيونية العالمية حركة الأفروسنتريك، التي أصبح لها- مثل قضية "البوليساريو"- 
مناصرون ومؤيدون ونشطاء على مستوى العالم. 
وهي حركات تقطع أوصال الأمم والحضارات وتشتت وتمزق أواصر اللحمة الوطنية والقوميات وتثير القلاقل والفتن وتلعب على وتر الأقليات لتغذي الانفصال والحركات الانفصالية وتفتعل القضايا لخدمة الاستعمار الجديد 
فالاستعمار كالحرباء يتلون وله ألف وجه، وما فعله النازيون في اليهود في السابق يفعله الصهاينة مع الفلسطينيين اليوم. 
وتهدف حركة الأفروسنتريك- ليس فقط- لتسويد الحضارات وطمس الهويات، كما سطت دولة الكيان الصهيوني على تراث فلسطين، بل تهدف الحركة لاحتلال أراضي الغير تمامًا كما حدث مع فلسطين، وكما حدث في أمريكا،
فبعض السودانيين اليوم يطالبون باحتلال مصر! 
ويعتبرون الفرار إليها من ويلات الصراع السوداني عودةً للجذور! واسترداداً لأراضيهم التي اغتصبها المصريون منهم! 
بل ويعتبرون المصريين- ممن يطلقون عليهم "ولاد فوزية"- ليسوا حقاً مصريين بل هجين من العرب والأوروبيين! ولم ينس ولم يستطيع أن ينسى بعض هؤلاء أن الملك فاروق كان ملكاً لمصر والسودان وأن مصر هبة المصريين كما هي هبة النيل. 
فبعد محاولات إثيوبيا البائسة للاستيلاء على مياه النيل تأتي أصوات راديكالية تطالب اليوم باحتلال السودانيين مصر وتتشدق بما يصطلح على تسميته بـ"مملكة كوش السودانية" وأن لهم في مصر أرض سيستعيدونها ولو بعد حين! 
وأن أرض مصر هي أرضهم وحلالهم وأن احتلال مصر في المستقبل أمر محسوم، بل وصار وشيكاً وأنها فقط مسألة وقت! 
وأثار كل ذلك حفيظة المصريين، فتيقظوا للمخطط الإمبريالي للأفروسنتريك الذي تدعمه الصهيونية العالمية 
وإن مددنا الخط على استقامته منذ ما حدث في السودان من قلاقل وما حدث لأبناء الجيش المصري في السودان من حماقات واستحضار لشخص واسم الملكة فوزية ثم زوبعة الملكة كليوباترا والوثائقي الذي أعلنت عن إنتاجه إحدى المنصات بأموال طائلة وتظهر فيه الملكة اليونانية المقدونية ذات البشرة البيضاء والعيون الزرقاء سمراء وشعرها مجعد! 
فتصدى الوعي بل واليقظة وفطنة المصريين لتلك الأطروحات والأفكار الخبيثة المغرضة التي لم تمرر، وقد يرى البعض في ذلك شيفونية أو حساسية مفرطة.. ويزايد البعض الآخر ويحتج بأن أسماء الشوارع في مصر لأفراد من صحراء الجزيرة العربية في تلميح خبيث، يريدون من خلاله جعل مصريي اليوم عرباً أو أعراباً، وتكون لا علاقة لهم بالمصريين القدماء وحضارتهم! 
فلنتعلم إذاً من أخطاء الماضي.. وأن المد العروبي وفكرة القومية العربية ثم غزو وزحف الإسلام السياسي على وادينا الأخضر- في غفلة من الزمن- ربت ذهنيةً لدى المواطن وقامت بتدينه حتى أصبح الانتماء للدين والعرق العربي أسمى من الانتماء للوطن والأرض وتلك الأفكار الأممية التي نادى بها الإناركيون تعد أطروحات تضر ضررًا بالغاً بفكرة الوطن والقومية المصرية .. فمصر أمة وليست مجرد دولة أو دويلة في مشروع الخلافة المزعوم منذ أن بدأ مشروع الصحوة الإسلامية واعتبر أنصاره أن الاسلام دين ودولة! 
وبالتالي فاليقظة واليقظة ثم اليقظة هي الحل 
والإفاقة والاستفاقة باتت مطلوبة وهي ليست ترفاً أو رفاهية.. بل إن استعادة العمود الفرعوني لدى الشخصية المصرية بات أمراً ملحاً بعد تلك الدعاوى المغرضة.. فكما أن لمصر عمودًا عربيًا وإفريقيًا وإسلامياً كما تحدث الدكتور ميلاد حنا في كتابه الشهير "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية"، فهنالك أيضا العمود القبطي والعمود الفرعوني .. والأعمدة السبعة تشكل وتغزل فسيفساء وطنية عصية على التفكيك.. ولكن إن طغى عنصر على الآخر يكون تسليط الضوء على العمود الفرعوني وعلى القومية المصرية بديلًا هاماً يدحض أطروحات المركزية الإفريقية والقومية العربية والمد الإسلامي. 
فمصر أمة عريقة جذورها ضاربة في عمق التاريخ والقومية المصرية لابد من إذكائها لتنتعش من جديد وتكون عنصرا طاردا لما دونها من قوميات ألصقت بنا؛ لأن مصر كانت ومازالت وستظل حاضنةً تستوعب الجميع وتطوعه وينصهر فيها الآخر ولا يمكن تطويعها.. مصر كانت دومًا عصية على كل الغزاة وانصهر فيها من غزاها ولم يطوعها أبداً لصالحه، بل دوما ما كان يحدث العكس .. فالعنصر المصري والجين المصري عصي على الاختراق ولا يمكن اللعب في أساساته شديدة الرسوخ.. قد نتأثر نعم لكن نؤثر أكثر وبكثير مما نتأثر والأدلة الدامغة على ما أقوله كثيرة، فـ"القومية المصرية" هي الحل وهي السبيل الوحيد لاستعادة الذات وإفشال كل محاولات الاختراق بعد أن تجرأت إحدى الجماعات التابعة للأفروسنتريك وطالبت بإتاحة زيارة الأماكن الأثرية المصرية للأفارقة بالمجان وهنا قد يبدو المطلب أخوياً يسوقه العشم؛ فيصبح مقبولًا لكن أن تهدد فيما بعد برفع دعوى على الحكومة المصرية تطالبها فيه باقتسام إيرادات السياحة في مصر لأن الآثار المصرية ملك للأفارقة لا للمصريين هنا يبلغ التحفظ مداه ويجب التصدي بحزم وحسم لإيقاف مثل هذا الهراء الذي أراه يضر بشكل مباشر لا فقط بقوميتنا المصرية وحضارتنا العريقة، بل هو ضرب في الأمن القومي المصري ويهدف لزعزعة ثقة المصريين في أنفسهم خصوصا من فئة الشباب والأجيال الجديدة.
أما حركة الأفروسنتريك، التي نشأت في الثمانينيات من القرن الماضي وجعلت أفارقة كثر ينضمون إليها لنكتشف أن للحركة مآرب أخرى وأنها حركة استعمارية تغذيها قوى خارجية، وبالتالي يجب عدم الاستهانة بمخططاتها.. فهنالك مؤامرة فجة وصريحة تريد النيل من حضارتنا المصرية القديمة وتريد النيل كذلك من الحضارة اليونانية وكل الحضارات العريقة لصالح هراء يطنطن به الآن ناشط سنغالي يدعى "أجاثا ديوب" ويدعمه فيه الناشط الأمريكي من أصل إفريقي "كيفين هارت"، فالحركة استطاعت استقطاب مشاهير ونشطاء وكما يدعم على سبيل المثال "المخرج الاسباني العالمي الموديفوار" قضية "البوليساريو". 
يدعم "هارت" وغيره ادعاءات الأفروسنتريك، والتي وصل بها الخبل لتقول بأن الأفارقة السود هم بناة الأهرامات وهنا نسترجع نفس ما نطق به "مناحم بيجين" في حضرة الرئيس الراحل "أنور السادات" بطل الحرب والسلام! فالحضارة المصرية حقا مستهدفة من قبل الصهاينة وبعض الأفارقة، بل ومصر ذاتها مستهدفة من هؤلاء 
أما أهرامات مصر التي صمدت في وجه التاريخ ذاته ووجه كل الغزاة فما زالت مطمعًا بل وعقدة أزلية مرض بسببها الصهاينة وأنصار الأفروسنتريك ممن يريدون الاستحواذ عليها.. وأسهم الضغط الشعبي الذي مورس في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة في جعل المنصة ذات الأجندة المعروفة تتراجع عما صرحت به بشأن الملكة كليوبترا.. فمنصة "نيتفليكس" تراجعت عن القول بأنها أنتجت وثائقيًا يخص الملكة المصرية "كليوباترا"؛ لتصرح بأن الفيلم ليس وثائقيا أي "ليس فيلماً واقعياً بل قصة خيالية تخص الملكة كليوبترا البطلمية المقدونية". 
وهذا إقرار من المنصة بأن كليوباترا ليست إفريقية سوداء كما أظهرها الفيلم لمآرب ولدعم ادعاءات الأفروسنتريك 
وعلى الفور أعلنت القناة الوثائقية المصرية عن إنتاج فيلم وشيك عن الملكة كليوباترا؛ ليرد على ترهلات المنصة المغرضة وسبق وأنتجت ذات القناة المصرية الوليدة التي تنتهج سياسة تنويرية تثقيفية لا غبار عليها وتجب الإشادة حقا بها وبسياستها التحريرية وتصديها ليس فقط لإنتاج فيلم عن الملكة كليوباترا، بل أنتجت "الوثائيقية" فيلما عن العقل المجدد والمفكر الأكاديمي المصري العالمي الكبير الدكتور "نصر حامد أبو زيد" الذي تدرس كتبه في جامعة "لايدن" في هولندا، بل تم تخصيص قاعة في الجامعة باسمه لإسهاماته الفكرية شديدة الأهمية في قضايا الفكر والفلسفة والتنوير. 
وأصدرت وزارة السياحة بياناً بشأن ادعاءات ومطالب الأفروسنتريك وصدر كذلك بيان عن المجلس الأعلى للآثار وتقرير عالمي صدر بالفرنسية يصف الحركة بأنها أسطورة لا تستند إلى أسس علمية إلى جانب تقرير يوناني يدين ادعاءات الأفروسنتريك ويكذبها وتصدى للحركة أيضاً علماء وأثريون ونشطاء مثل "ووكر" وغيره. 
لتظل تلك الحركة على هامش المجتمع العلمي والأكاديمي وستظل هكذا مجرد هامش وتهافت لن يرقى لمستوى الأطروحة ولن يتحول لمتن وسيظل أصحابها يتهافتون ويحلمون بالمستحيل طالما الإفاقة واليقظة هي عنوان كبير لتلك اللحظة الوجودية في حاضر أمتنا المصرية.. ولطالما ظللنا أمناء على قوميتنا المصرية التي ليس كمثلها شيء 
فهي تعرف ولا يعرف بها في العالم بأسره. 
وستظل عصية كما كانت، فهي الأقوى من الزمان، بل ويؤرخ بها لعمر الزمان ولعمر النور في هذه الدنيا.