رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحوار الوطنى.. (الطريق الثالث )

بعد فشل الطريقين الأول والثاني صار من الضروري، بل ومن الحتمي إيجاد طريق ثالث يشق لنفسه مجرى بعد أن قطع وأفسد البعض كلا الطريقين بمهارة قطاع الطرق!

الطريق الأول، الذي عهدناه وألفناه طوال ٣٠ عامًا من حكم الرئيس المخلوع الأسبق الراحل مبارك، والذي أدى فساد من أحاط به وتكلس نظامه في آخر عشر سنوات من حكمة لثورة تعثرت فصححت مسارها في الثلاثين من يونيو.    

والتأرجح بين الطريقين اللذين أثبتا فشلهما أدى لخلق طريق ثالث أوجد لنفسه مكانًا وموطئ قدم وأفرادًا لزامًا البناء بهم وعليهم لاستكمال المسير.

الطريق الأول كان طريق القبول بأي شيء وغض الطرف عن كل شيء.. النقد البناء غير موجود في قاموس أنصار هذا الطريق.. فأنصاره خلقوا فقط للتصفيق والاحتفاء والاحتفال والتهليل.. فصوابية القرارات ليست محل شك والنظام يعرف جيدًا كيف يعتني بنفسه وبالغير.. فسقطت تلك الدولة المباركية وسقط النظام في ٢٠١١ وبسقوطه ظن أنصار الطريق الثاني أنهم هم من أسقطوه وأن سقوطه هو الحل الأوحد "أي أن الهدم هو الحل"، فصار شعارهم كشعار السيد "أبو الهدد" في فيلم الراقصة والطبال "من هد وجد".

وتبارى واجتهد أنصار هذا الطريق الثاني على هدم الدولة ومؤسساتها- وليس فقط النظام- بدأب وحماسة منقطعة النظير.. فانحازوا فرحين لأعداء الدولة التاريخيين وجعلوا منهم رفقاء وأصدقاءً لهم وجعلوا من أنفسهم حلفاء وأولياء لهؤلاء! إعمالاً بالمنطق القبلي "عدو عدوي صديقي" وصارت الدولة عدواً!!  وصار العدو صديقاً!! وأوجد هؤلاء الأنصار الجدد للأعداء فلسفة فاسدة تبرر ما لا يبرر، كالقول بأنه علينا عصر الليمون على أيادينا لنلوثها بعد ذلك بالحبر الفسفوري عند اختيار العدو التاريخي "الإخوان المسلمون" لحكم البلاد علّ تأثير الليمون يطهر تلك الجماعة!! وأن نكون مع "الإسلام السياسي وبالتالي نكون أيضًا  مع "الدواعش" أحياناً ضد الدولة دائماً!!

وهكذا تعامل أنصار الطريقين الأول والثاني مع الوطن ومواطنيه بوصفهم دمى خشبية في لعبة شطرنج؛ ليفوز الفريق الأبيض على الأسود أو العكس. 
تماما كما ظهرت إبان ثورة يناير جماعة أسمت نفسها بجماعة "البلاك بلوك"؛ لتتصدى لها جماعة أخرى أسمت نفسها بالـ "وايت بلوك إسلام"!

وصار كل طرف يشيطن الآخر ويظن أنه اللاعب الرئيسي في المساحة البيضاء ضد النقيض الأسود وكأن الوطن رقعة شطرنج أو حلبة صراع أو حفنة من تراب عفن كما قال مرشد الجماعة الإرهابية.. وما إلى ذلك من ترهلات ومراهقة فكرية واستدلالات عقيمة وممارسات مخجلة لكيد العزول والثمن يدفعه المواطن مرتين.. مرة على يد أنصار الطريق الزاعق وتارة على يد الهدامين الأشاوس حتى وصل الأمر بالمواطن إلى الانحياز في الأغلب- ولو على استحياء- ضد من اعتبروهم هدامين أو مراهقين وذلك على أفضل تقدير.. وبالتالي استعدى أنصار الطريق الثاني غالبية الشعب ضدهم بغباء وحماقة يندر أن نجد لها مثيلاً فوصلنا الى حالة ميئوس منها فقدنا فيها الأمل في أي رشد قد يصدر عن أنصار الطريق الثاني.

إنها الراديكالية الفجة في أعمق صورها.. والتي  كانت عنواناً كبيراً للمشهد.. وصار الشقاق هو سيد الموقف وتجمدت الحياة وضاقت حلقاتها على الجميع  وسدت كل الأوردة حتى وصلنا للحظة الانفجار وما تلاها من تشظٍ ونزيف وإهدار.. فكان لزاماً الفكاك والتخلص من تلك الحالة ومن حالة الجمود والهروب لطريق ثالث قد نجد فيه الحل أو البديل أملاً في الحكم الرشيد.

فكان الطريق الثالث وهو طريق الحوار "الحوار الوطني اللاقصائي" الطريق الذي يستمع فيه الجميع للجميع بعيداً عن ثقافة حوار الطرشان، حيث تطرح جميع وجهات النظر التي يطرحها الفرقاء والجمع المتنوع الجامع اللا مانع لكل مكونات المجتمع المصري إلا من يعتبرون الوطن حفنة من تراب عفن.. واختلاف الرؤى في هذا الحوار يعزز حتماً من كفاءة المخرجات ولا يفسد للود قضية كما تحدث سيادة الرئيس في الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني والذي أعلن عنه الرئيس في إفطار الأسرة المصرية وتحدث فيه نصاً عن "الأمة المصرية" وأنها الغاية والوسيلة دائماً، لذلك فتح الرئيس باب الحوار على مصرعيه لتبادل الرؤى من طالبي وجه الوطن لوضع خارطة طريق لجيل المستقبل.. ووعد الرئيس في كلمته الافتتاحية بدعم استمرار هذا الحوار واعتباره تجربة وطنية ديمقراطية محترمة هيئت لها كل السبل لإنجاحها وتفعيل مخرجاتها في إطار من الممارسة السياسية الفاعلة.. ووعد الرئيس أيضاً بالمشاركة في مراحل هذا الحوار النهائية والذي ستشارك فيه عقول كفء نواياها صادقة ولديها إرادة حقيقية للعمل والتطور، وبالتالي منحت كلمة الرئيس الافتتاحية قبلة الحياة للحوار الوطني البناء ومنحته زخماً وكانت الضمانة الحقيقية لإنجاحه آملين متطلعين لجني ثمار هذا الحوار على شكل رؤى واضحة تصب حتماً لصالح هذا الوطن.. فالحوار هو الطريق الآمن، وهو الطريق غير المتربص والذي يتعامل مع الدولة  "قطاعي"  “و ليس بالجملة”، كما كان يفعل أنصار كلا الطريقين.. الأول الذي لا يراها تخطئ أبدًا ويناصرها ظالمة لنفسها وأهلها أو مظلومة.  
والطريق الثاني الذي يراها مخطئة دوماً وبالضرورة وعلى سبيل الاحتياط أيضاً
ولا يرى فيها أو منها خيراً قط!!  
أما الطريق الثالث "طريق الحوار" على أرضية الوطن في دولة المواطنة.. فيرى ما في الدولة من خير فيدعمه.. أو خطأ فيقدم النصيحة والحلول ويطرح البدائل وتتغير مواقفه- لا تتلون- وفقاً للمعطيات ووفقاً لكل مستجد على حدة وبالتالي ليس لديه موقف مسبق أو حاسم على الدوام لأنه غير محمل وغير متحامل ويتفهم المعطيات جيداً ثم يناقش بغية الإصلاح والتطوير والتقدم للأمام وإيجاد حلول واقعية لا سحرية تدرك أن التغيير تراكمياً ويحتاج ليس فقط للجهد، بل والوقت ويحتاج للسير وفقاً لرؤية واضحة واستراتيجية بعيدة المدى تدرك جيداً إلى أين تسير ولا تضل أو تفقد بوصلتها أو تتعثر أو تمل فتكف عن السير في منتصف الطريق و لا تكمل المسير ولا يصيبها أيضاً الإحباط أو الجزع، ولا تتأثر بمن يسعون لتثبيط الهمم و جعل الآخرين يتشككون أو يفقدون الثقة في حاضرهم ومستقبلهم. 
فالطريق الثالث يتبنى مواقف مختلفة وفقاً لكل مستجد ولا يعتبر الاختلاف خلافاً يستوجب العراك والصراعات المجانية باهظة التكاليف. 
وهذا الطريق هو حتماً طريق إصلاحي غير متواطئ وغير منبطح ولا يرى الدولة عدو ولا يستعدي عليها الخارج أياً كانت الظروف.. وفي نفس الوقت هو طريق للبناء لا للهدم ..  ولا يعمد و لا يسعد بتكسير" مقاديف الدولة" أو الشماتة فيها عند الشدائد ولا ينكر ما فعلته أن فعلت خيراً ويوجهها لتصحح مسارها إن جنحت أو حادت عن المسار الصحيح.

الطريق الثالث هو طريق الرشد والحوار المثمر البناء.
الذي نصل من خلاله للمبتغى .. وهذا المبتغى هو الحكم الرشيد.. أمل الأمم والدول المتمدينة ولا سبيل للوصول إليه إلا بالحوار الوطني الرصين الهادىء والجاد الذي يحدد لنفسه خارطة وبوصلة كي لا يضل الطريق. 
ولا سبيل للحكم الرشيد بدون الطريق الثالث والحوار البناء المرن غير الزاعق والأكثر انفتاحاً على الآخر بدون نوايا مبيتة أو انطباعات مسبقة أو يأس مر، بل أمر وبكثير من الصبر. 
فإن كثر وازداد عدد أتباع ذلك الطريق الرشيد وشكلوا للدولة ظهيراً شعبياً سلمياً يغنيها ويكفيها شر المنافقين ممن يضمرون لها ولأهلها  السوء ويبتزون الكل بالترغيب تارة والترهيب تارة سنصل حتماً لدولة رشيدة حكمها رشيد.

أما لنا بعد ثورتين .. و أثمان باهظة دفعت بقليل من الرشد؟؟!  والكثير من أنصاره ليكونوا العون الحقيقي للدولة.. وظهيرها المساند الرشيد.. لا الشوكة التي تغرز في ظهرها و تدميه.

أهلا بالحوار الوطني المثمر والبناء وكل الآفاق المطروحة بانفتاح غير مسبوق للتحليق 
بعيداً عن الخلافات الصغيرة وافتعال القضايا والنفخ في الكير.