رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيارة إلى بلزاك

كان كاتب الحكايات العالمى هانز كريستيان أندرسن مولعًا بأدب بلزاك، وعده أعظم أدباء القرن ١٩، ومن ثم قرر فى مارس ١٨٥٧ أن يزور بلزاك فى بيته، وكان المتفق عليه ألا تطول الاستضافة عن أسبوع واحد، لكن أندرسن بقى خمسة أسابيع كاملة، مما أدى ليس إلى توطيد العلاقة- كما كان مرجوًا- بل إلى تدهورها بين الكاتبين، مما يبين أن الإفراط فى المودة قد يؤدى إلى النفور، خاصة أن بلزاك كان حينذاك غارقًا فى بناء رواياته التى وضعت أساس الواقعية فى الأدب الروائى، ولم تكن لديه فسحة من الوقت للثرثرة. وتوقفت المراسلات بين الكاتبين بعد تلك الزيارة الودية. ولم تكن تلك فقط إحدى عجائب بلزاك، ذلك أنه كان أديبًا ثوريًا وهو يصف الواقع ويرسم الشخصيات والأحداث ويستقرئ الواقع، لكنه- سياسيًا- كان من أنصار النظام الملكى وهيمنة الكنيسة. 

ساقتنى إلى تلك الذكريات أننى أعيد قراءة ذلك الروائى العظيم، ذلك أنك فى العشرين تقرأ بلزاك، وفى الخمسين تقرأ بلزاك آخر، فى سنوات الشباب تقرؤه بعاطفة متقدة، فيما بعد تقرؤه مثل زواج، عماده الفهم وليس الشعور. ومن البديهى الآن ألا نتقبل فى أدب بلزاك تلك الإطالة العجيبة فى وصف مكان ما أو وجه شخص ما، أو الاستشهاد بنصوص قوانين القضاء فى شأن أو آخر، لكن ذلك لا يسقط القدرة العبقرية من تحليل الروائى للشخصيات، ووضع يده على التناقضات داخلها، وابتداعه الأحداث من منظور تقدمى مدهش. 

وفى روايته البديعة «أوهام ضائعة» بأجزائها الثلاثة الصادرة ما بين ١٨٣٧ و١٨٤٣، تظل تطل علينا عباراته الموجزة البليغة مثل قوله: «هل ينتصر مرض الإنسان؟ أم إنسان المرض؟»، وقوله: «الفن مجال مثل الشمس تنبت الغابات العظيمة والذباب والبعوض». وفى «أوهام ضائعة» يلقى الروائى العظيم من خلال شخصية «لوسيان» الضوء على القوانين التى حكمت وتحكم عمل الصحافة منذ نشأتها وربما حتى الآن. فيها يسعى «لوسيان» الشاعر لشق طريقه إلى العمل الصحفى فيرتطم بواقع ذلك المجال القائم على المصالح المتبادلة والخضوع للسلطة، إلى أن يصرخ: «باريس مجد فرنسا. باريس عار فرنسا»! يوضح أحدهم للوسيان ما يجرى قائلًا: «الصحفيون يكررون المواضيع الممجوجة أو يكتبون عن ترهات باريس فى الصحف، أو يعدون كتبًا حسب طلب تجار الكتب السوداء، أو يتبجحون بموهبة وليدة بناء على أوامر من أحد باشوات صحيفة ما، وسوف يجعلونك تكتب المقالات عن الكتب، وتكتب المقالات ضد نفس الكتب»، وهو ما يقوم به «لوسيان» لاحقًا فى رحلة الصعود التى تتبدد فيها أوهامه المثالية عن العمل الأدبى والصحافى، بينما تنكسر أحلام صديقه «ديفيد سيشارد» فى أن يقدم اكتشافًا علميًا جديدًا. 

وعن انكسار الأدب والعلم فى زمن صعود الرأسمالية الفرنسية يقول «جورج لوكاتش»: تصور رواية أوهام ضائعة مجرى رسملة الذهن أو الروح وتحويل الأدب إلى سلعة فى كل شموليته بدءًا من صناعة الورق وصولًا إلى مشاعر وأفكار الكتاب، حيث يصبح كل شىء سلعة «الصحف والمسارح ودور النشر» ويغدو المجد كما يقول أحدهم هو: «اثنا عشر ألف فرنك من عائد المقالات، وألف فرنك وجبات عشاء فاخر»، وتمسى قدرات الصحفيين والأدباء سلعة ومادة للمضاربة فى سوق الرأسمالية. ولكن رواية بلزاك بحد ذاتها تؤكد أن هناك دومًا أصواتًا تظل تنطق بالحقيقة التى جسدها بلزاك فنيًا قبل أن يجسدها فكريًا.