رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صناعة النشر ليست كالمشاركة على «ميكروباص»

لا أحد ينكر فضل مشروع مثل المشروع القومى للترجمة فى إتاحة عدد كبير ومهم من الدراسات والأبحاث الفكرية والأعمال الإبداعية القادمة من مختلف أنحاء العالم، ومثله سلسلتا «الجوائز» و«آفاق الترجمة»، وغيرهما من السلاسل التى تصدرها هيئات وزارة الثقافة المصرية، سواء المجلس الأعلى للثقافة، أم الهيئة العامة للكتاب أم الهيئة العامة لقصور الثقافة، حتى مشروع «كلمة» الإماراتى التابع لهيئة أبوظبى للسياحة والثقافة، الذى يبدو أن كتبه تصدر بأعداد محدودة، ولا يتم توزيعها بشكل جيد، فيما تغرق سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية «جيدة التوزيع» فى التخصصات النظرية، ومعظمها لدراسات عربية، أو ترجمات عن الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية رغم أعدادها المحدودة.. لكن السؤال هنا ليس عن دور الدولة وهيئاتها، ولا عن بقية الدول العربية، ولكن عن الناشرين المصريين المنضوين تحت رايتى اتحادى الناشرين المصريين والعرب، عن مئات الحاملين لذلك اللقب العظيم «ناشر»، ومنهم أدباء سابقون، وأساتذة جامعيون، وصحفيون.. من منهم يدرك حجم المسئولية التى يتصدى لها بمجرد تفكيره فى إنشاء دار للنشر؟! هل يعرف دوره معرفة حقيقية؟ هل يعرف ما معنى أن يكون «ناشر كتب» فى مصر، البلد الذى علم الدنيا الكتابة والفن والعمارة وأصول إدارة الحياة وما بعد الموت؟

هل يعرف الناشرون المصريون أنهم القائمون على صناعة هى الأخطر، وهى الأكثر تأثيرًا فى صناعة العقل الجمعى فى مصر والدول العربية؟، وأنهم المسئولون عما يقرؤه المصريون والعرب، وما يترسخ فى عقولهم من أفكار وتصورات وأوهام؟! وأن إنشاء دار للنشر ليس مجرد مشروع تجارى تحكمه حسابات المكسب والخسارة وحدها، فلا وجه للشبه بينه وبين «المشاركة على ميكروباص»، أو إدارة مطعم كباب وكفتة أو فول وطعمية، وأن الأمر لا يخلو من مغامرة لا تقل عن مغامرة صناعة السينما والمسرح والتليفزيون! تحتاج أول ما تحتاج إلى مجموعة من العقول المنتبهة، وقادة الرأى الموهوبين فى اكتشاف الجيد من الردىء، وتحتاج أول ما تحتاج إلى القدرة على تقييم الأعمال وتصنيفها، والمغامرة بإنتاج المجهول منها وتقديمه للقارئ.. يدرك قبل كل شىء قيمة ما يقوم به من عمل فى توجيه الرأى العام وصناعته، وتشكيل الذوق العام وتهذيبه أو شيطنته، بل يدرك قبل الجميع أنه يقوم بدور سياسى وقومى وفاعل فى المشهد العام فى وطنه.. وأن الترجمة عن مختلف اللغات حول العالم واحد من أهم الأدوار التى تقوم بها غالبية دور النشر المحترمة والكبيرة، على أن الأمر لا يخلو من ضوابط ومعايير ينبغى الاحتكام إليها، وفى مقدمتها أهمية إدراك الناشر المصرى أن حركة الترجمة على وجه التحديد لا ينبغى أن تحسمها حسابات العائد المالى فقط، ولا التمويل فقط، فنحن لا نترجم ما تريده المنظمات الهولندية أو الألمانية أو الدنماركية لمجرد أنهم سوف يدفعون التكاليف كلها، وأيًا كانت قيمة الأرباح المالية القادمة من ورائها، لا نترجم الأعمال التى تضع قوائمها الحكومة الصينية، ولا ما تبحث عن نشره المؤسسات الأمريكية أو البريطانية أو أيًا كانت جنسيتها.. فإذا ما أردنا أن يحترمنا القراء، فلا بد من سير العمل وفق قواعد مؤسسية تتسم بالشفافية والوضوح، وتحترم العقل، وتضعه فى مقدمة أولوياتها، فالكتاب مثل أى منتج فنى، فيه «الرائع» و«الجيد» و«النص نص».. وفيه «الفاسد»، و«المكتمل الفساد»، وربما ينبغى علينا هنا أن نعيد التساؤل.. لماذا لا يوجد فى مصر ناشر واحد «يوحد ربنا» يجيد قراءة الكتب، وتقييمها، أو حتى التخطيط لصالح مؤسسته؟ ألا يوجد كتاب أو شعراء فى غير فرنسا وبريطانيا وهولندا وأمريكا اللاتينية؟ تلك الدول التى تدير فيما بينها حربًا ثقافية عالمية، ربما تختلف طرقها عن الطريق المباشر الذى انتهجته دار «التقدم» الروسية صاحبة الفضل الأول فى قراءة العالم كله لديستويفسكي أو تولستوى أو غيرهما من كبار الكتاب الروس، لكن هدفها هو ذاته لم يتغير، تقديم ثقافتها إلى العالم فى صورة أنيقة، جذابة، ومغرية بالاقتناء؟!

لماذا كلما فكرنا فى الترجمة تتجه العيون شمالًا أو غربًا فقط لا غير؟! لماذا لا نرى من الشرق إلا أقل القليل، ونعمى تمامًا عن جوارنا الإفريقى؟! ماذا يعرف القراء المصريون، من غير المتخصصين، عما يحدث الآن فى السودان الشقيق؟ وكم عدد الكتب «العربية» التى نشرتها دور النشر المصرية عن السودان أو ليبيا، أو إثيوبيا، أو غيرها من دول الجوار؟ أليس ذلك واحدًا من الأدوار التى لا تقوم بها دور النشر المصرية؟! 

كم كتابًا نشرناه فى مصر لأدباء أو مفكرين ليبيين أو سودانيين؟ هل نعرف أسماءهم؟! كم كتابًا نشرنا لكتاب موريتانيين، تشاديين، أو من الصومال؟! لن أتحدث عن أبناء دول الخليج العربى، فلديهم ما يدفعون لنشر كتبهم فى مصر، والمؤسف أنه لا يتم النشر لغيرهم «لغير من يدفعون»!!

لماذا لا يوجد فى مصر ناشر «واحد يوحد ربنا» يعرف ما يحتاجه العقل العربى ويعمل عليه؟!

أرجو ألا يحتج علىَّ أحد بأن صناعة النشر تخسر، أو غير مضمونة الربح، فهذا كلام فارغ، يضحك به صغار الناشرين، ومحدودو الأفق منهم، على محدودى الموهبة من الكتاب، والمبتدئين، ولا يليق التحجج به وإن كان به جزء من الصحة، فصناعة النشر لا يحكمها المكسب «المالى» السريع، ولا يحكمها المكسب «المالى» وحده.. ومرة أخرى لا أخيرة، ليست كالمشاركة على «ميكروباص».