رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

٢٨ ليلًا وقصيدة

٢٨ ليلًا وقصيدة
بسنت حسن
هو عنوان الفيلم «الهجين» الذى ينتمى للسينما «العابرة للنوع»، والتى احتفى بها مهرجان الإسماعيلية كتيمة أساسية فى دورته الرابعة والعشرين، من خلال برنامج خاص عرضت خلاله ٤ أفلام تنوعت بين القصيرة والطويلة.. حديثة الإنتاج والكلاسيكية.. والفيلم الهجين هو الذى يمزج بين الوثائقى والروائى؛ ليسد الفجوة التى فصلت بينهما لفترة طويلة، ويمزج كذلك الواقع بالخيال؛ لينتج سردًا فريدًا متعدد الأغراض، بعضه يهدف لتخطى المحظورات الرقابية والسلطة السياسية التى تمارسها السلطات، وبعضه يخلق واقعًا سينمائيًا سحريًا.. وهكذا يقدم الفيلم الهجين مجموعة واسعة من الحلول الإبداعية لصانع العمل؛ ليستخدمها فى معالجة موضوعاته المتنوعة، وكان فيلم المبدع اللبنانى «أكرم زعترى» «٢٨ ليلًا وقصيدة» أحد هذه الأفلام الكلاسيكية العابرة للنوع، والذى أنتج عام ٢٠١٥ محاولًا زعترى من خلاله دراسة ورصد ما أنتجته استديوهات التصوير الفوتوغرافى فى منتصف القرن العشرين استمرارًا واستكمالًا لمسيرته فى جمع ودراسة وأرشفة تاريخ التصوير فى العالم العربى وتم اختبار «زعترى» لتمثيل لبنان فى بينالى فينيسيا عام ٢٠١٣، و شارك كذلك فى تأسيس «مؤسسة الصور العربية فى عام ١٩٩٧»، وهو مخرج ومصور وفنان أرشيف من جنوب لبنان، وتحديدًا من مدينة «صيدا»، وقد شاهدت له فيلمًا بديعًا عام ١٩٩٩، فى إطار مشروع قدمته مؤسسة السينما العربية لدراسة تاريخ وأرشيف أهم المصورين فى العالم العربى؛ لذلك زار «زعترى» القاهرة فى هذا العام والتقى المصور الأرمينى المصرى الشهير «فان ليو» واضطلع على أرشيفه الثرى منطلقًا من صورة وجدها ذلك المبدع المنقب لجدته التى زارت استديو المصور الشهير فى القاهرة فى خمسينيات القرن الماضى؛ ليلتقط لها صورةً عاريةً بناء على طلبها.. ومن تلك الصورة انفتح «أكرم زعترى» على صور وعوالم «فان ليو» عمومًا وخصوصًا بورتريهات السيدات اللاتى ذهبن إليه فى منتصف القرن الماضى ليلتقط لهن صورًا بعضها كان صورًا عارية.. وكان من أوائل المصورين فى هذا الزمان الذين قدموا جلسات تصوير عرى للسيدات من مختلف الأعمار والجنسيات.. وبعد مشروعه وفيلمه الرائع «هى وهو فان ليو» يعود «زعترى» بعد سنوات لاستديو الصور القديمة الذى يحمل اسم «شهرزاد» فى مدينة «صيدا» فى جنوب لبنان، وهو من أوائل استديوهات التصوير فى المدينة وتعود نشأته لعام ١٩٥٣ ومن خلال ذلك الاستديو يروى الفيلم الهجين أو العابر للنوع قصة مدينة صيدا وقصة مصورها «هاشم المدنى»، الذى ولد عام 1928 وكيف من خلال استديو التصوير القديم وأرشيفه والنيجاتيف استطاع «زعترى» رصد وملامسة جوانب من الحياة السياسية والاجتماعية فى المدينة والدور الذى لعبته الصورة فى حياة سكان المدينة منذ عام ١٩٥٣ وحتى تاريخ إنتاج الفيلم.. ورصد أيضًا التطور الذى طرأ على الصورة تقنيًا منذ عهد الأبيض والأسود ثم التلوين باستخدام الأقلام الملونة قبل اختراع الفوتوشوب والصور الملونة وما تم استحداثه ليس فقط فى عوالم التصوير الفوتوغرافى، بل فى تصوير الفيديو والتصوير السينمائى ونوعية الكاميرات منذ استحداثها مرورًا بكاميرا السينما الـ٨ م حتى الديجيتال والتطور الذى طرأ أيضًا على تقنيات الصوت منذ عهد الأسطوانات والجرامافون حتى  اختراع شرائط الكاسيت ثم ظهور الكمبيوتر وما تلاه من تطور حتى وصلنا لعهد الديجيتال ومن قبله بالطبع ظهور التليفزيون والكليب المصور وتطوره منذ زمن الأبيض والأسود وحتى الآن وإعادة تصوير وغناء الأغانى الكلاسيكية التى أعاد غناءها وتصويرها مطربو العصر الحديث
فالفيلم كان لديه مستويين فى الطرح منذ بدايته حتى النهاية.
المستوى الأول وكان له علاقة بالتطور التقنى والمعنى به المخرج بوصفه- كما سبق وأوضحت - «فنان أرشيف» أما المستوى الثانى فكانت له علاقة برصد التطور والتحولات و ما استجد على المجتمع بل والعالم العربى عمومًا فنيًا واجتماعيًا وسياسيًا. 
وما استجد على لبنان و تحديدًا على مدينته «صيدا» على كل المستويات.. ففى خمسينيات القرن الماضى كانت تذهب النساء لالتقاط الصور فى استديو «شهرزاد» وجاءت ذات مرة إحداهن من شمال صيدا وطلبت أن يتم تصويرها عاريةً بالبروفايل. 
وكانت تأتى أيضًا النساء المثليات ليلتقط لهن الصور صاحب الاستديو وهن يتبادلن القبل الساخنة كذلك الرجال من المثليين والذين طلبوا أيضًا تصوير أنفسهم وهم يتبادلون القبل، بل وطلب أحدهم أن تلتقط له صوره مع حبيبه وهو يرتدى فستان وطرحة زفاف.. إلى جانب صور الشاطىء بلباس البحر للرجال والنساء والعشاق الذين أرادوا توثيق ذكرياتهم وقصص حبهم.. والشباب الذين يقفزون للبحر من فوق صخور بحر صيدا والجنوب وشاب أراد التقاط صورةً لنفسه عاريًا على الشاطئ بعد خلعه لباس البحر.. وهكذا رصدنا مع المخرج وخلال رحلته أسرار المجتمع وسكان المدينة وكان استديو «شهرزاد» أقرب لخزانة الأسرار الخاصة بالمدينة و قاطنيها وكأنه الصندوق الأسود الذى يحمى كل الأسرار.. فنشر أو تسريب تلك الصور بشكل علنى كان أمرًا مستحيلًا فى ذلك الزمان الذى لم يكن قد اخترع فيه الإنترنت ومواقع التواصل التى انتهكت خصوصية الناس وجعلت حيوات البشر على المشاع بل وأحيانًا تذاع وتعرض أسرارهم الخاصة للجماهير الواسعة بشكل لحظى وعلى الهواء مباشرة فى نفس اللحظة!
ورصد زعترى من خلال أرشيف ونيجاتيف الاستديو كذلك التحولات التى طرأت على سكان المدينة وغيرت اهتماماتهم مع نشأة الأحزاب فى البلاد والتى تزامنت مع نشأتها ثقافة اقتناء وحمل السلاح للمدنيين، والذى أصبح أمرًا عاديًا و مألوفًا! ورصد المخرج ذلك منذ عام ١٩٥٨، حتى صار شبه مقنن فى عام ١٩٦٤ وحرص هؤلاء المدنيون على التقاط الصور لأنفسهم ومعهم الرشاشات وكان بعضهم يستعير السلاح ليلتقط لنفسه صورةً وهو يحمله ثم يعيده لصاحبه مرة أخرى! وظهرت صورة لرجلين يحملان السلاح وبينهما يجلس طفل صغير! ومن ثم بدأ الهوس بفكرة امتلاك وحمل السلاح واستعراض القوة وكان شريط الصوت يسير مع أحداث الفيلم جنبًا إلى جنب بشكل متوازٍ؛ ليضفى على العمل ثراءً أكبر ويصل المعنى الذى يريد المخرج إيصاله للمتلقى بشكل أعمق و أكثر فنية.. ففترة الخمسينيات وصور العشاق كانت أغانى فؤاد المهندس وشويكار تصاحبها ومع صور السيدات والبحر يظهر كليب لصباح وهى على البحر تغنى أغنيتها الشهيرة «ساعات ساعات أحب عمرى وأعشق الحاجات»، حيث شكلت السينما المصرية، والتى أظهر «زعترى» بعض تتراتها، التى تحمل أسماء منتجين ومخرجين وتقنيين من لبنان مثل «حلمى رفلة» وغيره.. وبالطبع كانت هنالك صور التقطها المصور «هاشم المدنى» من داخل دور العرض السينمائية فى صيدا لرجال ونساء وجمهور المدينة وهو يشاهد أفلام «عبدالحليم حافظ» على الشاشة.. فالأغانى المصرية شكلت وجدان وذائقة غالبية الشعوب العربية، خصوصًا أهل الجنوب وتعلقهم بالفترة الناصرية وفكرة القومية العربية؛ لذلك ظهرت أغانى «عبدالحليم حافظ» الوطنية مثل «أحلف بسماها وبترابها»، بالأبيض والأسود ثم أعادت غنائها الفنانة اللبنانية   «ماجدة الرومى» وظهرت بالألوان فى حفل أقيم فى التسعينيات بعد حرب الخليج الثانية «غزو العراق للكويت» أمام الرئيس الأسبق المخلوع مبارك والمشير طنطاوى. 
ولم تكن الأغانى والسينما فقط من أثروا الوجدان والذائقة عند أهل الجنوب، بل قامت دولة التلاوة المصرية والمدرسة المصرية التى تعتمد على «التجويد» فى قراءة القرآن بدور كبير..واحتفظ غالبية أهل الجنوب فى لبنان بأشرطة لتجويد القرآن بصوت الشيخ «مصطفى إسماعيل» وغيره لأشرطة التلاوة وترتيل القرآن، والتى طغت على سوق الكاسيت منذ الثمانينيات، حيث احتل وتصدر المقرئون السعوديون المشهد مثلما صار للرقصات الخليجية والأغانى باللهجة الخليجية مكانة طغت وأثرت على الذائقة وتزامن معها كذلك ظهور أغانى «مايكل جاكسون» وغزوه سوق الكاسيت فى لبنان ومقاربة رقصاته المعهودة المفعمة بالحركة مع رقصات أهل الخليج.. ونعلم جميعًا أن «مايكل جاكسون» قضى الحقبة الأخيرة من حياته فى منطقة الخليج وعاش تحديدًا فى مملكة البحرين لسنين متخفيًا مرتديًا الجلباب والزى الخليجى، ثم بدأ دخول الـ«يوتيوب»، فى منتصف السبعينيات بدأت كذلك الحرب الأهلية اللبنانية. 
وعبر المخرج عن تلك المرحلة صوتيًا بكليب بالأبيض والأسود لوردة وبليغ حمدى وهما يدندنان فى دويتو مصور أغنية عبدالحليم حافظ «تخونوه و عمره ما خانكم و لا اشتكى منكم.. تبيعوه وعمره ما باعكم ولا انشغل عنكم.. قلبى ليه تخونوه»! 
ليظهر بعدها صوت «فيروز» وهى تغنى «وعلقت ع أطراف الوادى وشادى ركض يتفرج خفت وصرت أنده له وينك رايح يا شادى أنده له وما يسمعنى.. ومن يومتها ما عدت شوفته.. ضاع شادى» ثم بدأ «زعترى» أيضًا فى رصد بدايات الفيديو كليب فى لبنان منذ الأبيض والأسود وبدايات ظهور «راغب علامة» وهو من «جنوب لبنان» وظهر فى بداياته بشارب كثيف فى أولى أغانيه «يا ريت فينى خبيها» حتى ظهر الكليب الملون وظهر فيه «علامة» بدون الشارب وفى هيئته الجديدة.
ورصد كذلك «زعترى» دخول التليفزيون إلى صيدا وبداية البث بالأبيض والأسود ببرامج وأوبريت غنائى للأطفال.. فالتليفزيون ظهر فى مصر عام ١٩٦٠، وكان أول تليفزيون ليس فقط فى المنطقة العربية بل وفى الشرق الأوسط، ثم ظهرت الفضائية المصرية كأول فضائية عربية تصل للبلدان العربية سنة ١٩٩٠.
وفى المشهد قبل الأخير وهو من أجمل مشاهد الفيلم الفنية والتى عبرت بصدق عن فكرة الفيلم العابر للنوع أو الفيلم الهجين، حيث استخدم «زعترى» شكلًا شاعريًا فى سرده السينمائى.. خلق منه عالمًا سينمائيًا ساحرًا بوضعه كاسيت صغير داخل محمية بلاستيكية فيها نبتة خضراء وبداخل الكاسيت شريط يحمل مقطعا بديعا عالقا فى الأذن والذاكرة لإحدى أغانى عبدالحليم حافظ من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدى، وهى أغنية «أى دمعة حزن لا».. وأدار «زعترى» الشريط بجانب النبتة الخضراء وصوت عبدالحليم يقول «سافرت كتير معاه كتير كتير معاه فى أحلامى بهواه كتير كتير معاه.. سقيته من حنانى وبنيت معاه أمانى وقلت يا ريت يا دنيا تدينى عمر تانى»، وبالطبع ذلك المشهد الساحرى الرقيق مع صوت الأغنية وكلماتها أوصلا الفكرة بعذوبة للمتلقى والمشاهد الذى شعر بحنين وعشم المبدع فى أن تمنحه الدنيا «عمر تانى» أجمل يزهر كالنبتة الخضراء بعد أن سقاها من أحلامه وأمانيه ويختم «زعترى» فيلمه بمشهد طويل يقف فيه  بنفسه، إذ ظهر فى نهاية الفيلم، مع الفوتوغرافى العجوز وهما ينظران لنا عبر الكاميرا فى صمت ويعبر عن صمتهما هذه المرة صوت «ملحم بركات» وأغنيته الشهيرة «على بابى واقف قمرين» وكلماتها تقول «يا مداوى قلوب عطشانة تروى العطشانين.. يا اللى قلوبك مليانة بالحب و الحنين وأنا وأنت يا نور  العين ساكنين بجزانين.. على بابى واقف قمرين 
واحد بالسما والثانى أغلى من العين»، ورحل «ملحم بركات» بعد إنتاج هذا الفيلم بعام واحد ولا اعلم إن كان «هاشم المدنى» صاحب أقدم استديو تصوير فى «صيدا» قد رحل هو أيضا أم لا؛ ليبقى فيلم «أكرم زعترى» قصيدة شعرية غزلت فى ٢٨ ليلة ووثقت لمدينة صيدا وسكانها ووثقت للبنان وأحداثه السياسية، بل ووثقت تاريخ الفن بمختلف أطيافه فى العالم العربى و مصر ونسجت أصواتًا وأغانى عديدة ومشاهد لأفلام سينمائية مصرية شكلت جميعها فسيفساء متقنة على هيئة فيلم- ليس فقط عابرًا للنوع- بل هو عمل فنى ينتمى للواقعية السحرية وكأنه قصيدة شعر غزلت بدقة حرفى محترف وحيوية طائر يحلق فى السماء مسافرًا بأحلامه وأمانيه طالبًا عمرًا ثانيًا تكون فيه الحياة أجمل، كما كانت فى السابق قبل ظهور السلاح والحروب والطائفية والأزمات الاقتصادية.