رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيمان خطاب تكتب: العيد في عيون الفن التشكيلي المصري (2 - 2)

إيمان خطاب
إيمان خطاب

إاذا كانت المناسبات الاجتماعية والأعياد الدينية والوطنية، هي المناسبات التي يتوحد فيها الفرد مع الجماعة، والفنان مع المتلقى في شعور واحد ورؤية شبه واحدة، فإن فرحة العيد واحتفالاته ومظاهره سواء في الريف أو الحضر، وسواء فى داخل البيوت أوخارجها، فإن كل فنان يمتلك رؤية ذاتية من منطلق جماعى تصور بشكل مختلف مظاهر العيد  الواقعية، كما يراها ويشعر بتأثيرها على بيئته ومحيطه الاجتماعى.

وما بين (هلت ليال حلوة وهنية) لبيرم التونسي إلى (عيد، بأى حالِ عُدت يا عيدُ) للمتنبى، تنوع الإنتاج الفنى على مر الأعوام والمناسبات.

نستكمل في هذا المقال ما قد بدأناه في المقال الفائت حول العيد في عيون  التشكيلين المصريين  ونقدم عبر هذا المقال 5 أصوات مابين جيل الرواد و جيل الاساتذة و جيل الوسط والشباب ،مع مراعاة المساحة المسموحة للنشر.

إيمان حكيم .. تستثنائية المرأة و أسطورة اللونإ

تسبح الفنانة إيمان الحكيم فى منطقة  وسطىَ ما بين الواقع والخيال.. بين الوعى واللا وعى.. ويتداخل أسلوبها ما بين التعبيرية التى تنبع من نظرتها  كأمرأة شغوفة بالتفاصيل.. والتأثيرية التى تتخذ من مشاعرها الفياضة تجاه موضوعاتها و تفاعلها مع خيالها الثرى، لتتشكل لوحاتها على السطح الأبيض أو الملون أحيانا، فيض من اللون!

تستخدم إيمان الأسلوب التلقائى فى رصد الواقع وخاصة حياة المرأة، بورتريهاتها تتبنى وجهه نظر تنفذ إلى أعماق شخوصها ، لتبدو كل لوحة كحالة درامية منفردة بذاتها.

وعلى الرغم من مسحة الدراما والحزن المغلف ببهجة الألوان، فإن اعمالها المتنوعة والغزيرة الأنتاج  تضج بالحياة و بالبشر وتعكس حميمية محببة تترجمها تشكيليا عن طريق تداخل وزخم الألوان المستخدمة بالأضافة إلى  تداخل عناصر وشخوص العمل، حيث يبدو أن هناك جلبة ما أو احتفال او كرنفال يحتفى بالحياة سواء كانت صراعا ومعاناة او عشقا و حلما ملون لا ينتهي.

 

ميرفت الشاذلى.. بهجة الجنوب وغموضه 

تعتمد ميرفت الشاذلى على ذاكرتها البصرية و تعايشها وتفاعلها مع البيئة النوبية وفنونها، الشعبية المستمدة  بشكل واضح من الحضارة والفن الفرعونى الذى يتميز بالأحتفاء بالحياة وطقوسها .

كما ان الحياة والعادات الاجتماعية و العلاقات الإنسانية الدافئة كما أجواء الجنوب  تظهر بوضوح فى  أعمالها . انها تستقى الوانها وتكويناتها من  خصوصية المناظر الطبيعية والبيئة الذاخرة بصفاء اللون ونقاءه ووضوحه و سخونته أيضا .

ولكن أهم ما يميز أسلوبها هو التكوينات التى تبدو سريالية و تلقائية فى ذات الوقت ولكنها فى الواقع مدروسة و موزونة تشكيليا من فنانة تمتلك تماما أدواتها وتجيد توظيفها لتصبح اللوحة جاذبة  للمتلقى بشكل لا يصدق .

حيث تنظر العيون العميقة الى المتلقى مباشرة وكأنها تريد ان تقول او تحكى شيئا هاما ، واحيانا هى نظرة تحدى و تمرد على واقع ما !

تستخدم ميرفت أيضا رموزا شعبية و حيوانات و نباتات  (مثل السمكة والنخلة ) من البيئة النوبية ،ولكنها استطاعت بذكائها الفنى والفطرى يالأضافة إلى  دراستها وتجاربها الفنية المتواصلة أن تحول مشاهد التراث و البيئة الى أعمالا ما بعد حداثية تجمع فيها عدة مدارس وأساليب منها الواقعية والرمزية والتعبيرية و السريالية ،ولكنها فى النهاية لا تفعل شيئا الا التعبير عن نفسها وعن عالمها الصادق جدا و المبهر تشكيليا !

مصطفى ربيع.. التعبيرية الرمزية وروح الطفولة

 

يمتلك الفنان الشاب مصطفى ربيع رؤية مختلفة للواقع و بخاصة العلاقات الإنسانية الحميمة ما بين أفراد الأسرة او الأصدقاء والعشاق  وتبدو لوحاته بتقسيماتها للخلفية  والوانها الصريحة وشخوصها المميزين بخطوطهم البسيطة المحددة ...وكأننا نتصفح كتاب حكايات او نشاهد   مسلسل كرتونى بشخصاته التى نعرفها عن ظهر قلب ونتفاعل معها مع كل لوحة  ..

كل لوحة تمثل مشهد ما .. لعلاقة ما او لحظة ماوهذة الرؤية التى تبدو بسيطة وطفولية ،هى ما تتميز به أعمال مصطفى ربيع ..كما ان اختياره للألوان و أسلوب توزيعها مميز جدا وهو عامل هام فى جذب أنتباه المشاهد .

يستخدم مصطفى عناصر ورموز تتردد كثيرا فى لوحاته مثل القطة و المائدة و طبق الفاكهة ويهتم كثيرا بتصوير  علاقة الرجل بالمرأة .

ولذلك فإن أعماله تجمع بين البساطة فى التكوينات و الخطوط  و التناسق و الهارمونى اللونى و الوضوح فى الفكرة ..ولذلك فهى لا تسبب اى عناء للمتلقى ،بل على العكس هى تثير حالة من البهجة والسرور لمن يشاهدها و تدعو المتلقى للتفكير  فيما تعنية الرموز والعناصر البسيطة فى اللوحة وعلاقتها النفسية والتشكيلية ببعضها البعض  .

وهو حريص على ان يقدم فكرا بالأضافة إلى جماليات التكوين والايقاع وحوار الألوان المدروس جيدا .مصطفى ربيع فنان شاب له رؤية خاصة و أسلوب مميز و مستقبل كبير فى الفن التشكيلى  .

إبراهيم البريدي.. وإعادة تدوير الفن التشكلى بقصاقيص القماش !

 

 

تبدو أعمال الفنان التلقائى البريدى كأحتفالية شعبية بمظاهر الحياة بكل ما تحوية من لحظات سعادة وحب و متعة فهو يصور المشاهد التى علقت فى ذهنه من حياته فى المناطق الريفية والشعبية المصرية ، بكل طقوسها الاحتفالية حيث نتجول معه بين  المغنيين الشعبيين فى الريف وصعيد مصرو بين الراقصين والراقصات و الساحر والأراجوز و بائع العرقسوس و غزل البنات ،تحوط بهم فرحة الأولاد والبنات فى الأعياد .

اما عن التميز الحقيقي لهذة الموهبة الفريدة يكمن فى  الأدوات والوسائط التى يستخدمها ..وهى المقص و الأبرة و الخيط والأقمشة الملونة بالأضافة إلى أسلوبه بالطبع  فى تكوين لوحاته ، والذى يبدو بسيطا و لكنه تشكيليا يُعد ناجحاً، وجاذباً فى إيقاعاته و إختياره للعناصر واستخدامه للموتيفات الشعبية وعلاقتها  المتشابكة والمكملة لبعضها البعض .كما ان أعماله الملونة تتميز بالهارمونى و التناسق على الرغم من عشوائيتها وعفويتها المقصودة، والمحببة إلى النفس والقريبة من الروح الشعبية المصرية بشكل خاص

 .

جلال جمعه ..حوار الخط و الفراغ وعبقرية الخلق 

 

فنان أخر غير تقليدى يستخدم خامة بسيطة إيضا ،بل إنها من أقل الخامات قيمة وجمالاً فى حد ذاتها ، ولكنه يشكل منها أعمالا ترقى إلى الأعمال  النحتية لكبار النحاتين العالميين  !

السلك الصدأ فى يد النحات والفنان الكبير  جلال جمعه يصبح كنزاً من الأبداع ذو القيمة الفنية العالية فى درجة التجريد التى تصل إلى التقشف التام فى تجسيم العمل بل وأنه يلجأ كثيراً إلى حذف أجزاء أساسية لتكملها عين المتلقى ..وهذا النوع من الأعمال بالأضافة إلى جمالياته و توازنه و أتساقة الشكلى إلا أنه يدعو المشاهد إلى المشاركة فى تكمله الحدود  الناقصة للعمل  بعينه وبخياله، وهذا ما يجعله جزء من العملية الابداعية ذاتها وهى تحقق حوارا حميميا بين الفنان والمتلقى عن طريق العمل نفسه ، ومن هنا نبلغ الغاية الكبرى للفن وجوهره  وتفرده .

 وتكمن براعة التشكيل أيضا فى الأصابع و الآلات اليدوية البسيطة جداً التى يستخدمها جلال جمعه لينجز اعمالاً كبرى ب (سلك واحد) عادة ،بما يقابله فى فن الرسم ب (الخط الواحد ) فتتحقق الأنسيابية بل والشفافية أحياناً على الرغم من أن الخامة المستخدمة هى السلك ولكنها تبدو مغزولة مثل خيوط الحرير والدانتل .

شخصية هذا الفنان الفريد والرائع  فى حسه المصري و خفه روحه  التى تطل من أبتسامته الدائمة و عشقه للدعابة و الشقاوة الطفولية ،يجعله يمارس فنه بفكر و احساس طفل يلهو ..ويستمتع ويضحك من كل قلبه و هو يتحدث و يستمع و يده قابضة على السلك لتخرج اعمالاً فنية تعبر كثيرا عن الأنسان المصرى و ممارساته اليومية ورموزه الدينية  و مظاهر الحياة والطبيعة بأسلوب  غاية فى الأتقان والبساطة  .

 إن أعمال الفنان جمعه بالسلك او الزلط او بأغصان الشجر هى الدليل البديع والقاطع على أن(الفن) لا يحتاح الا إلى روح وعقل و يد (فنان)! مهما كانت الأدوات والوسائط رخيصة أو بسيطة !

محسن ابو العزم.. جماليات القبح وتعبيرية الطقوس

محسن ابو العزم ؛عندما يذكر أسمه فأننا على الفور  ندلف إلى عالم من الواقع الديناميكى المشتعل بالحركة و الحوارات الساخنة و التفاعلات والنظرات والإماءات المفعمة بضجة الحياة و عنفوانها .. فى المناطق الشعبية وشوارع المدن كما فى ريف وصعيد مصر.
يتخذ محسن ابو العزم مشاهد من الحياة  اليومية والأحتفالات والأعياد و المناسبات الإجتماعية ،حيث يجتمع الناس على المقاهى وفى البيوت ..ليجسد شخصياته المزدحمة غالبا فى فضاء اللوحة ..بحيث تأخذ كل شخصية دوراً محورياً فى التكوين ، فالكل أبطال والكل فاعلون ومؤدون لأدوارهم وكأننا  نشاهد فيلما سينمائيا زاخراً بالأحداث و الموسيقى التصويرية و الإيقاعات والمشاعر التى تبدو واضحة على ملامح الوجوه .
تربكنا التفاصيل و لكنها تبهرنا أيضاً، إنها عين الفنان الثاقبة المخلصة جدا للواقع بكل عناصره مهما كانت صغيرة او ثانوية ،فهى حاضرة دوما تكمل المشهد لتمنح حضوراً ومصداقية للعمل الفنى .أسلوب الفنان الفريد فى الخطوط وانحناءاتها و حركاتها و تعبيرها عن الشخصيات بأسلوب هزلى معقد ، وليس تبسيطى يميل إلى التشوية الجاذب والأكثر جمالاً وحضوراً من الواقع .


ويثبت الفنان أبو العزم من خلال أعماله أن القبح أحيانا أبلغ من الجمال المثالى وأن تعبير الوجوه و جمالياتها  يتطلب أحياناً كثير ة المبالغة والتضخيم كما يفعل الممثلون على المسرح من حركات و أفتعال تونات للصوت غير واقعية لشد أنتباه الجمهور وللتعبير عن المشاعر و قوتها  بشكل واضح ،فضلا عن الجانب الكوميدى الواضح جداً والذى يبدو أن الفنان حريصا كل الحرص على إبراز ه،لتخرج أعماله مزيجاً  ما بين فنون عده ..أبرزها فن الكاريكاتير ولكنه نجح فى توظيفه فى تكوينات للوحات شعبية ساحرة فى واقعيتها وطرافتها وإتقانها أيضا بالأضافة إلى أنها تعد توثيقاً للممارسات والطقوس الشعبية المصرية فى الريف والحضر .

هكذا مهما تعددت وسائل ووسائط الفنون  ،فإنها تظل هى الوسيلة المشروعة والممتعة لعبور الواقع إلى  براح الإبداع  والخيال ودهشته وهو الخيال المعبر عن الواقع نفسه والمستمد منه!

وسواء أن كان هذا الواقع وهذة الذكريات والمشاعر والممارسات أليمة او سعيدة ، فان الفنان هو الكائن المرهف السمع و الحس الذى يلتقط الأشارات و الرموز و جماليات الصورة الواقعية  ويترجمها ويجسدها كما يحلو له ،فهو يلتقط تعبيرات وخلجات الأنسان سواء أن كان شحاذاً فقيراً على باب الله او نجم ساطع يشدو على خشبه المسرح كأم كلثوم التى صورها أكثر من فنان كل بأسلوبه وبرؤيته و تجاوبه ومعايشته لذبذبات وإيقاعات صوتها   وهى تشدو "يا ليلة العيد انستينا " فبمجرد سماع هذة العبارة بصوت الست يصبح العيد عيداً .

ويعود فنكشتين ليؤكد :"أن الأعمال الفنية هى من إنتاج أفراد ،غير أن الفن نفسه جزء من الحياة الإجتماعية ،وإذا لم يكن الرسم والنحت جزءاً من الحياة الإجتماعية فسيكون من المستحيل أنتاج الرسومات الفردية وتماثيل النحت .

غير أن المعرفة ذاتها من جانب الفنان لما هو عليه نفسه وكذلك لما هى عليه حياته إنما هى أمور تتوقف على الديناميات الأساسية للعمل التى تجعل المجتمع نفسه حياً ومتغيراً"