رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحب.. مغامرة الأرواح العظيمة

الحب مغامرة الأرواح الحية، عندما تحن الروح إلى عشها وسمائها فى روح أخرى، فتحوم حولها مثل طائر حائر، تعلو، وتهبط، تندفع، وتتردد، حتى تحين اللحظة المسكرة فتشتبك بروح أخرى بكل مشاعرها، وذكرياتها، فيلتحم بعنف كوكبان، وعالمان، وتتطاير خلال الاندماج مشاعر كثيرة، وتشتعل أخرى، حتى يصبح الاثنان واحدًا مكتملًا، ليس «هو»، وليست «هى»، بل روح أخرى، مثل اتحاد ضوء القمر بالزهور على الأرض. 

هذه المغامرة التى تتوق فيها الروح إلى روح أخرى سعيًا إلى مخلوق واحد من ذوب روحين، هى إحدى أكثر رحلات النفس الإنسانية عمقًا، وغنى، وثراءً، وبهجة، وربما يكمن فيها غاية الحياة ومغزاها النهائى: أن يجد الإنسان نفسه، ولا وجود لنفس الإنسان إلا بنفس أخرى. وكلما تقدم بى العمر أيقنت أن للإنسان حلمًا لا يفارقه، أن يجد نفسه مكتملًا بالحب، مزهوًا به، ومن دون ذلك فإن حياة الإنسان تشبه حركة طائر يزحف للأمام بجناح واحد، يتعثر، يتقدم ببطء، يتوقف، وغالبًا ما يعجز عن التحليق، ويظل أسير أحزانه. لذلك يرتجف الرجل أمام المرأة إذا أطالت النظر إليه ويسأل نفسه: أتكون عيناها بيتى وسمائى؟ أولد فى نورها وأتنفس من أنفاسها؟. لا أعرف أحدًا كف عن هذا السؤال طوال عمره. تتقدم الروح إلى الروح، تشتبك، وتتراجع، وتعاود التقدم، وينزف كل طائر من رقة الاشتباك وجرحه، من الانخراط، والإقبال، والإدبار، وتصبح الروح ساحة تحت أنوار الانفعالات والأشواق العظيمة، إلى أن يتعب الطائران من التحويم والأمل، ويروح كل منهما يلعق ريشه من نزف المحبة وعذوبة الاندماج. لا أعرف مغامرة أكثر ثراء، لا الغربة، ولا السجن، ولا الفقر، ولا الحرب، ولا السلام، لا شىء أكثر غنى من سعى الروح إلى الروح بحثًا عن كائن جديد ينصهران فيه معًا، إنها المغامرة التى يمكن للإنسان بعدها أن يكون مقاتلًا ومدافعًا، فارسًا وشاعرًا، محاربًا أو مزارعًا، مانعًا أو مانحًا. وحين يظفر المرء بلحظة الحب فإنه يتحد مع كل شىء فى الأرض، معادنها، وسحبها، وآبارها، ويغدو هذا الكائن القليل الحجم الكون كله، بأمطاره وأقماره ورعوده. الاشتباك والاندماج الروحى بين عاشق ومحبوبته هو أقدم الكنوز الإنسانية، وأغلاها، يمتلئ كل يوم بملايين القصص الجديدة، ويفرغ كل يوم، من دون أن تتكرر قصة حب واحدة ولو كان عمرها لحظة. هذا الكنز الذى تكتب وتمحى فيه حكايات الحب أعز ما فى الوجود، لذلك فإن عظمة الكاتب الحقيقى أن يكون شاعرًا ينشد للناس ولو قصة حب واحدة، ولو لحظة من تلك اللحظات التى تتشابك فيها روحان، برقة ثم بعنف حتى تدمى كل منهما الأخرى تحت برق الاكتمال، حين يرفع العاشق محبوبته إلى أعلى الأنوار، وهى تطعمه فاكهة الوجود كله.