رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهد بطلها كلب عبدالرسول 2/3

كان هذا يومًا مشهودًا وأصبح تأريخًا حقيقيا لكل أهل النجع فيما بعد، كان ذلك في نهار رمضان، حينها سمع الجميع صوتًا ينطلق من مئذنة المسجد في غير وقت الصلاة، وحين خرج الجميع من البيوت كان العم سالم يدخن سيجارته فوق المئذنة، الشيوخ لم يعجبهم الأمر وقالوا: "حتى وإن كان عقله غير موجود فلا يصح هذا الفعل"، وحين نزل العم سالم وجد الشيخ عابد أمامه وكانت أول كلمة وجهها الشيخ لسالم: «يعني فاطر وفاسد وسكتنا، كمان تطلع فوق الميدنة وتشرب سجارة يا سالم؟»، وهنا رد سالم:" بص يا مولانا هسألك سؤال لو جاوبت عليه يبقى عندك الحق"، فعقب الشيخ عابد: "قول يا زفتان الطبن"، فقال سالم: "هو لو رمضان كان اسمه سالم وانا كان اسمي رمضان كان هيصيمني يا مولانا!!؟"، وهنا سكت الشيخ وخبط كفا بكف: "والله انا اللي قليت بعقلي ووقفت مع واحد اهبل زيك يا سالم.. افطر يا ولدي افطر".
وفي عصر اليوم نفسه انطلقت أول صرخة للخالة كاملة، والخالة كاملة واحدة ممن تملك بيتا مفتوح السقف مثل بيوت أهل النجع، وفوجئت بأن الثعالب هاجمتها من كل حدب وصوب، وأصبحت العشة خاوية على عروشها من الـ"فروج"، والبط، والبح، والمالطي، والحمام الزغاليل ايضًا.
بعدها وفي أيام تالية راحت الثعالب تنزل من الجبل القريب في هجمات متتالية، حتى إن الحاجة وجيدة التي كانت تقتات على ما ينتجه الفروج من بيض وجدت نفسها وجهًا لوجه أمام أحد الثعالب، وكان من المفترض أن يجري الثعلب من الحاجة وجيدة، ولكن حدث العكس وجرت الحاجة من الثعلب وهي تصرخ، وكان واضحا أن الثعلب قد قام بعمل وليمة كبيرة على حساب الحاجة، فلم تجد فروجة واحدة، وراحت الحاجة تنتحب بصوت عالٍ، وهنا أحس الرجال بجرح في كرامتهم فكيف يفشل النجع كله في الحفاظ على فروج الحاجة وجيدة، وهنا قرر الجميع مخاطبة آخر شخص يتمنون مخاطبته في هذا الوقت ولكن للضرورة أحكام، وحتى لا يصبح النجع أضحوكة أمام النجوع، وكان هذا الشخص هو الحاج عبدالرسول وكلبه.
قيل إن كلب الحاج له صوت يخرج بعزم، وإن نباحه ينم عن قوة وبأس شديدين، وحين ينبح يهرب اللصوص وتختفي الثعالب والهوام وتختبئ القطط ولا تحتاج الأمهات لهدهدة أطفالها وتكف الأبقار عن الخوار، والحمير عن النهيق، حتى إن الديكة تهمس بصياحها همسا في وجوده، باختصار لا صوت يعلو فوق صوت كلب عبدالرسول.
ولكن ما تسبب في كل هذه البطولة للكلب هو ما حدث مع العرجون، والعرجون هذا هو أشهر لص عرفه النجع والنجوع المجاورة، يتحرك بخفة فهد ونعومة رقطاء ورشاقة قرد، والغريب أنه حين يواجه العشة يمد يده ويمسد ظهر الفروج، فيستكين تمامًا ولا يقاقئ، لذلك فالعرجون أشد خطرًا من الثعالب، هي تسرق فروجة أو اثنين لكن العرجون يسرق الفروج كله، والعجيب أنه لا يغريه الذهب أو الفضة، هو فقط يحب الفروج ولا شىء غيره.
كان العرجون يقفز من سطح إلى سطح وكأن عيناه تعمل بالأشعة تحت الحمراء فلا تنزلق قدمه ولم يحدث مرة أن فشل في هدفه، لكنه لص رحيم، حين سرق العمة وجيدة وخرجت تصرخ وتبكي، قيل إنه سمع بالأمر فأعاد كل الفروج وبعض عظمٍ لفروجة وحيدة كان قد أكلها رتقًا للجوع.
وفي سرقته الأخيرة كان العرجون ينزلق لبيت عبدالرسول، ولسوء حظه كان العم قد أطلق الكلب ترويحًا له، وفوجئ العرجون بالكلب وزمجرته والزبد يسيل من بين شدقيه، وحاول العرجون الهرب لكن الكلب قفل عليه كل المنافذ، ونبح الكلب بقوة أرعبت العرجون وقيل إنها تسببت في صلع رأسه، وهناك شهود عيان أكدوا فيما بعد أنه لا توجد شعرة واحدة في جسد العرجون، وحين ربتت يد الحاج عبدالرسول على رأس الكلب أقعى الأخير في هدوء في حين كان العرجون يرتجف مثل عصفور صغير في مواجهة شتاء قارس.
وتاب العرجون من وقتها عن سرقة البيوت ووجّه نشاطه لسرقة الأراضي الزراعية خدمة للحاج عبدالرسول، وانصب كل اهتمامه على سيده الحقيقي والوحيد الذي استطاع إيقافه، كلب عبدالرسول.
المهم أنه حين توجه الوفد لمناقشة عبدالرسول في أمر إطلاق الكلب، وضع العم ساقًا على ساق أمام كبار النجع، وتجاوز الكبار عن هذا الأمر على مضض، وكانت للعم شروط هي أنه لا توجد مساءلة لو عقر الكلب أي رجل في النجع، والكل يتحمل مسئولية نفسه، وأن يتقدم النجع كل أسبوع بما قيمته 10 جنيهات لزوم تجهيز الكلب من أكل وحموم ومراقبة وغيرها، بل إن الأمر بلغ بالرجال من سعادتهم بموافقة عبدالرسول أنهم أعلنوا على رءوس الأشهاد أنهم سيأخذون الكلب في نزهة أسبوعية للترعة القبلية للاستحمام والترويح عنه.
وكان مشهدًا عظيمًا ومهيبًا، أخرج العم عبدالرسول الكلب في منتصف الشارع المؤدي للجبل، وترك الكلب الذي وقف على قائميه مثل ذئب، ومط بوزه بنباح عال، وهنا أحس الجميع بفرحة كبيرة تسري في الصدور، فتواجد كلب بحجم كلب عبدالرسول من حسن حظ الرجال، وسوء حظ الثعالب وعبيدي.
أما الثعالب فنعرفها، وأما عبيدي الـ"متعايق والعجبان"، فهو شاب في العشرين، ومثل كل أهل النجع يصحو مبكرا لأمور لا تستدعي الصحيان مبكرا من الأساس؛ فيغسل وجهه بالصابون "الغشيم"، ويليس "التقشيطة/ رمش العين"، ويشرب شايه ثم يلمع الشبشب ويلتحف شاله الكشمير ماركة الجمل، يدخل الحوش ويطمئن أن خروفه الوحيد أكل وشرب ولديه ما يكفيه، بعد ذلك يخرج كيس "المدغة" ويدلق بعضًا منها في فمه، ثم يمسك "بالعطرون" ويقضم قطعة صغيرة منه ويظل يلوك "المدغة" في فمه ويبصق، ولكن في هذا اليوم زام الخروف كثيرا، وتعجب عبيدي لكن لم يهتم، ويمم وجهه شطر طرقات النجع وهو يترنم بصفير منغوم للشيخ جمال الإسناوي.
لسوء حظ عبيدي تزامن صعوده للجبل وقت الظهر والشمس تمد ألسنة حارة وتلعق وجوه الناس وتكنسهم كنسًا للبيوت، وصعد عبيدي في الدروب وواجه بيت كرامة وكان الباب مفتوحًا، وكان كرامة نفسه ممددا عاريًا إلا من مئزر حول وسطه، ونظر عبيدي بغير انتباه وأكمل طريقه، لكن كرامة نادى عليه كثيرا ولم يهتم عبيدي، وظل يمشي حتى وقف أمام بيت عبدالرسول وصعد على المصطبة أمام الدار ثم جلس على قدميه فأصبح سرواله على حافة المصطبة، ثم راح يبصق لعابه المخلوط بعصارة المدغة في هدوء وتلذذ.
جرى الأمر بسرعة غريبة، خرج الكلب ولم يمنح عبيدي الأمر أي خيانة من جهته، حتى إنه ظل يتلذذ بطعم "المدغة"، ولم يشعر إلا والكلب يدخل رأسه في سرواله، كانت لقطة سريعة جدًا، حتى إن الولد لم يفطن للذي حدث، لكن صرخته أقلقت النيام وجرتهم للأبواب ليروا عبيدي الواقف بلا حول ولا قوة وبقعة دماء تنتشر على التقشيطة ما بين الفخذين، ونظر عبيدي وصرخ على إثر رؤية الدماء، ومد يده إلى سرواله فخرجت مليئة بالدم، فصرخ أكثر وشد تقشيطته للأمام مثل طفل خرج من عملية ختان وجرى للبيت.
وانتشر الأمر بسرعة شديدة وضحك الشعراء وراحوا يتتبعون الحدث وينشدون أدوارهم، ومنها ما قاله شاعر النجع أبوفارس..
...
كأن الخروف بالحدث مبشر
بص ف عبيدي شوية وكشر
زام عليه لكنه ما فسر
وع التراب دور دعميس
*
اتدور عبيدي وقال دي بلاوي
ولف بسرعة ف حلقة حاوي
3 خطوات جاب بيت سلماوي
تقولشي ماشي ف قلب باريس
*
ماشي يبص ف عرض كمامه
يا حسرة عليه وألف ندامة
خمس مرات يندهله كرامة 
كأن ودانه ساددها إبليس
ولم يستطع أحد أن يحاسب الحاج عبدالرسول على مستقبل أسرة عبيدي الذي كاد يضيع، ووقف الشرط مثل متراس متين بين الكلب وبينهم، وفي نهاية الأمر رجحوا أن اختفاء الثعالب أهم من ضياع خصية عبيدي، لكن الفتى وحده من حمل الأمر، وراحت أنياب الكلب تطل عليه في أحلامه فيستيقظ مفزوعًا ليمد يده بشكل لا إرادي ويتحسس سرواله، وراحت الأيام تدفع الأيام والثعالب تسمع النباح ولا تقترب من النجع، حتى كان اليوم الذي فرحت فيه عندما لم يأتها النباح، كل النجع كان حزينا وأهله يحملون نعشًا في جنازة تليق بكلب، كانوا كلهم يبكون إلا شخص وحيد فرح بالأمر لسببين، الأول أنه لا يملك أي عشش للفروج، والثاني لأنه الآن يمكنه أن ينام بهدوء.