رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات مراسل إذاعة

كنت أعمل مراسلًا لإذاعة الإمارات فى موسكو عندما أعلنوا عن زيارة سيقوم بها الرئيس مبارك إلى موسكو فى ١٥ مايو ١٩٨٩، فكلمتنى الإذاعة باهتمام ولهفة أن أحصل منه على تصريح خاص تنفرد به الإذاعة. بالسؤال تبين لى أن جميع المراسلين من دول العالم كافة سيقفون فى المطار لاستقباله يوم وصوله خلف حاجز، وهذا هو المتاح لا أكثر. كان يومًا مشمسًا توجهت فيه منذ الصباح الباكر إلى المطار فوجدته يغص بالحراس والمراسلين والكاميرات. وقفت مع الجميع خلف حاجز أحمل جهاز تسجيل صوت صغيرًا، بعد فترة انتظار هبط الرئيس ومر أمامنا يصافحنا مغمغمًا لكل منا بكلمتين وحيدتين: «أهلًا وسهلًا» ويواصل بعدهما سيره. سجلت العبارة وهرولت أزيح المراسلين لعلنى ألتقط شيئًا ما قد يقوله، لكنه لم يزد عن «أهلًا وسهلًا»، سجلتها خمس مرات، واعتبرتها- لا أدرى لماذا- «تصريحًا خاصًا» تنفرد به الإذاعة! أسرعت بعد ذلك عائدًا إلى البيت وشرعت فى كتابة الرسالة لكى ألقيها فى اتصال هاتفى، وأشرت إلى أن الرئيس المصرى هبط إلى المطار وكان فى استقباله فلان وفلان، وصرّح سيادته لإذاعة الإمارات بقوله: «أهلًا وسهلًا»، وقبل أن يستقل سيارته أعاد علينا نفس التصريح بحذافيره! اتصلت بالإذاعة ووجدتهم متلهفين على رسالة تغطى حدثًا عربيًا سوفيتيًا كبيرًا. بدأت أتلو الرسالة وشعرت عن بُعد بالذهول الذى حل على الاستديو بأبوظبى، واستفسر منى المسئول بدهشة وغيظ: «يا أستاذ.. هذا هو التصريح الذى اختص به إذاعتنا؟»، قلت بجدية: «نعم، أهلًا وسهلًا هذه تحتاج منكم فقط لمجرد توضيح.. فهى بمعنى أن الرئيس متفائل وأن المباحثات ستمضى على أفضل وجه! وللعلم هذا تصريح خاص بنا وحدنا، يمكن أن تسميه انفرادًا». بعد انتهاء المكالمة فتحت الراديو ووجدتهم يذيعون الرسالة وجاء فى مقدمتها: «تصريحات خاصة من الرئيس المصرى لمراسلنا فى موسكو»! لكنهم يا للأسف أذاعوا «أهلًا وسهلًا» مرة واحدة وحذفوا المرات الأربع الأخرى مع أن بعضها كان فى منتهى الأهمية. بعد زيارة مبارك وتحديدًا فى أغسطس ١٩٩١، كان جورباتشوف يستريح فى القرم حين تم عزله من «لجنة الطوارئ» التى ضمت الشيوعيين المتشددين، ووزيرى الدفاع والداخلية. جرت المحاولة فجرًا وأنا نائم بالطبع، ومبكرًا فى الصباح دق جرس الهاتف وإذا بها الإذاعة، يسألوننى بلهوجة واهتمام بالغ: «أستاذ أحمد ما أخبار الانقلاب عندكم؟»، قلت وأنا أفرك عينى: «أى انقلاب؟»، قالوا: «على جورباتشوف»، قلت مدهوشًا: «متى حدث ذلك؟»، صاحوا بغيظ: «فجر اليوم»، صحت متعجبًا: «ومن الذين قاموا بالانقلاب؟»، انفجر الزميل من الطرف الآخر صارخًا: «يا أستاذ نحن نتصل بك لتعطينا المعلومات، لا لكى نعطيك نحن المعلومات»!! غضبت من الإذاعة بسبب هذه الملاحظة، وبسبب ما سبقها من عدم تقدير لانفرادى الصحفى بتصريح خاص من الرئيس مبارك. ومع ذلك فقد نبهنى العمل الإذاعى إلى حقيقة مهمة، ففى بداية عملى معهم سجلت لهم رسالة عن العلاقات الروسية الكويتية، وفى أثناء إلقاء الرسالة نطقت كلمة «الكويت» كما ننطقها فى مصر، لكن زميلًا من هناك استوقفنى وقال لى: «الكويت.. بفتح الواو وليس بكسرها»، وتنبهت إلى حقيقة أن النطق السليم للكلمات هو المعيار لإتقان اللغة حقًا، فعكفت على كتب اللغة العربية بجوار دراستى للروسية، واكتشفت خلال ذلك أن اللغة الروسية أسهل مئة مرة من لغتى الأم التى أعشقها رغم صعوباتها.