رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حديث الأولياء.. رسائل أقطاب الصوفية السرية إلى الله

الصوفية
الصوفية

- يناجون الله بلغة ومعجم خاص ويستخدمون رموزًا لا يفهمها إلا المريدون وأهل الطريق

- مناهجهم ودعوتهم قاومت توغل الفكر المتطرف وأسهمت فى تنوير عقول الشباب 

كان الصيف فى ذروة حرارته، والنهار ينفخ لهيبه على شوارع المدينة، لمح «أحمد»، محل عصير على بعد أمتار من مكانه، وأراد أن يروى ظمأه.

ومثل كل المصريين، شعر بمجرد عبوره عتبة المحل أنه فى بستان ظليل.. لكنه كان على موعد مع جمال من نوع آخر.. كان صوت الشيخ ياسين التهامى يشدو بحزن ووَلع عجيب: «تجلى لى المحبوب فى كل وجهة... فشاهدته فى كل معنى وصورة».

وصديقنا «أحمد» هذا شخصية رومانسية للغاية.. لم يكد يفيق من سكرة صوت الشيخ ياسين وغنائه عن المحبوب ووجهه الذى يطارده فى كل مكان، إلا وظهرت له فى مخيلته، صورة زميلته القديمة فى الجامعة «حب حياته» التى حلم بالزواج منها، لولا أن فرّقتهما الظروف وتقلبات الأيام.. كان صوت «التهامى» يُمعن فى تعذيبه وتذكيره بكل شىء: «وخاطبنى منّى بكشف سرائرى/ فقال أتدرى من أنا قلت مُنيتى». 

هناك شىء غريب لاحظه صاحبنا وهو يتباطأ فى احتساء «شُوب العصير».. إن الجوقة التى تغنى خلف الشيخ، تردد بابتهال: «يا مدد.. يا مدد.. يا مدد».. تساءل: «ترى ممن يطلبون المدد؟ هل يذكرون الله؟ كيف يتحدثون عن الخالق فى الوقت الذى يغنى فيه المنشد لمحبوبه؟ هل يستقيم الأمران؟».

خرج من المحل ولم يأبه بقيظ الشارع.. كان محملًا بشحنة غير مفهومة من العذوبة والتساؤلات.. لقد فُتن بصوت الشيخ ياسين.. لم يكن يعلم حينها أن ما ينشده «التهامى» هو أبيات من قصيدة طويلة مدهشة للولى الجليل إبراهيم الدسوقى، قطب مدينة دسوق بكفرالشيخ، والمولود عام ٦٥٣ هجريًا، الذى يعتبر مؤسس الطريقة البرهامية المنتشرة فى أنحاء مصر. 

ربما تكون مررت فى يوم من الأيام بموقف مشابه لما مر به «أحمد»، وتعثرت فى شبكة من التساؤلات المثيلة.. ليس مُهمًا أن تكون لك تجربة مع التصوف أو الاستماع إلى الأناشيد الشعبية والمدائح الدينية، لكن يكفى أن تعلم أننا كمصريين وعلى مدار تاريخنا، أصحاب التجربة الأهم والأضخم والأكثر ثراء فى التصوف الإسلامى، رغم تنوعها وانتشارها وازدهارها فى كثير من البلدان العربية، وهو السر الذى ربما وقف حجر عثرة فى فترة من الفترات، أمام الاجتياح الكامل للفكر الوهابى والمتطرف لبلادنا، حتى تداركتنا رحمة الله.

أما تلك الإشكالية المذهلة التى نعايشها مع تجربة الاستماع لقصائد المتصوفة وأناشيد المداحين، من خلط عجيب بين الحديث عن الله والحديث عن الحبيب أو المحبوبة أو مسميات مثل «ليلى» و«سلمى» وغيرها، فيقف وراءها سر روحانى وإنسانى أعظم، وضعه الخالق فى قلوب وأذهان هؤلاء الأولياء والمنشدين، لا أدّعى أننى أدركه أو أتيقن منه، بل أقول لك، إنها مجرد خيوط سأسعى معك إلى الإمساك بها وشدها ناحيتنا، علّها توصلنا إلى شىء أو معنى حقيقى. 

الكرامات لا يجوز البوح بها.. والمجاز الفنى شفرة للتعبير عن الأحوال والمشاعر

هناك بابان رئيسيان للدخول إلى صلب التجربة الصوفية، من يعبر منهما، قد يفهم الكثير من الإشارات والأمور الغامضة فى هذا الطريق، الباب الأول يسمى «وحدة الوجود» والثانى «وحدة الشهود».

ربما يبدو الاسمان مُبهمين، لكنهما يضمان بين حروفهما لذة ومتعة غريبة.. «وحدة الوجود»، هى حال أو شعور روحانى يحس به المتصوف حينما يشعر أنه لا يرى شيئًا فى هذه الدنيا، إلا ويرى الله فيه، أما «وحدة الشهود»، فهى حالة يكون فيها عندما يحس أنه لا يرى أى شىء فى الدنيا غير الله.. هكذا عرّف أئمة الصوفية هذين المعنيين واسترسلوا فى الحديث عنهما وعن الكرامات والفيوضات التى تصاحب أهل الله عندما يعبرون بتقواهم وصلاحهم وتعلقهم بالخالق من كلا البابين.

وترسخت فى أذهان أئمة الصوفية، حقيقة راسخة، وهى أن تلك الأحوال الروحانية، إنما هى عطايا خاصة يهبها الله لمن يشاء من عباده الصالحين، الذين يصطفيهم بالكرم والكرامات، لذا أجمع العلماء على أن هذه العطايا يجب أن تكون من الأسرار الدفينة بين العبد وربه، وأن ما بين الخالق وأوليائه الصالحين، أو ما يرسله المولى لعباده من إشارات وإلهامات، لا يجب أن يُصرح به للناس بشكل مباشر أو سطحى، لأنها عطايا ربانية لها صفة الخصوصية والجلال.

ومنذ تبلورت هذه الفكرة العامة فى أذهان الصوفية، وعلى مدار قرون من ذيوع الفكر الصوفى وتنوع مناهجه وفلسفاته العميقة والمُلهمة، تكونت ما يمكن تسميته باللغة السامية.. لغة لها معجمها المختلف ومعانيها المتعددة الأوجه، وأوصافها الرشيقة المتباينة والمتبدلة، وهى لغة تفرعت منها مدارس لغوية تبنتها وطورتها أفكار ومؤلفات أهل التصوف.

وإذا شبهنا تلك اللغة بالبيت الكبير، فإن القاعدة الرئيسية لهذا البيت هى «الرمزية».. ما الذى يعنيه هذا الكلام؟ ببساطة: الصوفى حين لا يريد أن يعبّر عن أحواله بالكلام المباشر، يلجأ للإشارة، ولكى يصف الأشياء يستخدم الرموز، ببساطة أكثر: هو يستخدم الكلمات التى قد تعطى فى ظاهرها معنى مباشرًا، لكن يُعطى باطنها معنى أكثر عمقًا، يفهمه فقط المحبون والمريدون وأهل الطريق.

وأريد أن يتصالح معى أهل الصوفية قليلًا، لو قلت إن ذلك الأمر لا يخلو من بُعد فنى قوى للغاية مثلما له بعد روحانى.. فالطرح الفنى لم يكن فى يوم من الأيام، بعيدًا عن المنهج الصوفى بجلاله وصبغته الدينية الصافية.. ربما نعتبر أن أئمة الصوفية كانوا يمتلكون نوعًا أو حساسية فنية خاصة غلفت فلسفاتهم وأفكارهم وأطروحاتهم، فصنعوا ما يصفه نقاد الفن والأدب بـ«المعادل الموضوعى» لأحوالهم ومشاعرهم، بحيث يعبرون عن آمالهم وعلاقتهم وحبهم لله باستخدام آليات فنية ممزوجة بنفَس روحانى.

وأنقل لكم عبارة شهيرة للشاعر الإنجليزى «ت إس إليوت»، فى مقال له عن «هاملت»: «الطريقة الوحيدة للتعبير عن العاطفة فى شكل فنى، هى إيجاد معادل موضوعى، أى مجموعة من الأشياء أو المواقف أو سلسلة من الأحداث، تكون فى النهاية هى التركيبة المعادلة لهذه العاطفة».

ما الذى نفهمه من هذا الكلام؟ إن المعادل الموضوعى الذى استخدمه أهل الله للتعبير ومناجاة الخالق وإصباغ صفة الخصوصية والكتمان على علاقتهم بالمولى، يكمن فى الكلمات والدلالات التى نسمعها فى قصائد محيى الدين بن عربى وأناشيد ياسين التهامى وأحمد التونى وأحمد برين، فنجدهم يقولون على سبيل المثال: «حبيبى، حبيب قلبى، طبيبى، دوائى، مُنيتى، أيها الساقى، روحى، كُلِّى.. إلخ».

يفسر لنا ذلك، استعانة المتصوفة بأسماء مثل «المحبوب والمعشوق» و«ليلى» و«لبنى» و«سلمى» و«رضوى» وغيرها، من أجل مناجاة الله.. إن الصوفى يا سادة يعمل بمبدأ «دارى على شمعتك تقيد»، هو يشير فقط ولا يشرح، يفعل ما عليه ويمنحنا الرموز، وعلى كل إنسان أن يفكها على الشكل الذى يريده، ومن هنا نشأ المزج أو الخلط الذى يشعر به المستمع، فتارة يظنه يتحدث عن الحبيبة، وأخرى يظنه يتحدث عن روح مجهولة، ومرة يظنه يتحدث عن المولى، خلط قد يبدو غريبًا، لكنه يعطى التجربة الصوفية زخمًا وتنوعًا وإشراقًا ليس له مثيل. 

لكن ألا يأخذنا ذلك لسؤال أخطر؟ لماذا يستعين شعراء الصوفية وأولياؤها بأسماء أنثوية عندما يكونون فى حال المناجاة والذكر؟

لله روح يشعر بها أهل الحضرة فيطلبون المدد منها فى لحظات العسر

آمن أهل التصوف أنه كلما ترقى العبد فى درجات القرب من الله، أحس بالروح التى يرسلها الخالق وتكون هى مدد الصالحين من عباده فى لحظات العسر، «فإذا سويته ونفخت فيه من روحى».

إذن فللّه روح قد يشعر بها أولياؤه وأصفياؤه، فيخاطبونها ويناجونها ويطالبونها بالمدد والنصرة، لكن كيف توصف تلك الروح وكيف يُعبر عنها بالكلمات؟

أرسى الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، مبدأ بلاغيًا مهمًا فى أشكال التعبير ومخاطبة الله.. ويمكن تلخيص وتبسيط هذا المبدأ فى أنه لا يوجد «رمز» أو «دلالة» تطلق على الله بشكل عشوائى، بل إن كل وصف يجب أن يتمتع بالدلالة الأقرب لروح الموصوف.

وهناك اقتباسان من حديثين مأثورين عن النبى محمد صلى الله عليه وسلم، قد يكونان مفتاحنا للدخول إلى تلك الدائرة الغامضة، الأول هو «حُبب إلىّ من دنياكم، النساء والطيب»، والثانى هو «إن الله جميل يحب الجمال».. وإذا أردنا الاجتهاد واستخلاص بعض العبر من هذين الحديثين، سنجد أن الله قد خلق الأنثى ومنحها سمات خَلقية أهلتها لتكون رمزًا للحسن واللطف والرقة، وسنجد أن ذلك الرمز المتفرد بالحسن، أولى بأن يوصف به كل شىء جميل.

لذا لم يجد أئمة التصوف أجمل من اسم أنثوى مثل «ليلى» أو «سلمى» للتعبير ومناجاة تلك الروح.. وهنا نعود لمحيى الدين بن عربى، وهو يحلل نوع وطبيعة «علة الكون» فى كتابه «فصوص الحكم»: «فإذا الرجل مُدرَج بين ذات ظهر عنها، وبين امرأة ظهرت عنه. فهو بين مؤنَّثين: تأنيث ذات، وتأنيث حقيقى. كآدم، مذكَّر بين الذات الموجود عنها، وبين حواء الموجودة عنه. فكن على أىِّ مذهب شئت، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدَّم، حتى عند أصحاب العلَّة الذين جعلوا الحقَّ علَّة فى وجود العالم، والعلَّة مؤنثة».

ومن هذا المنطلق، لم يشعر الصوفية بأى حرج فى استخدام أسماء أنثوية مثل «ليلى»، للمناجاة والمديح، فيقول العالم الأزهرى الصوفى محمد زكى إبراهيم فى قصيدة له: «كنيت بليلى عن ذات أقدسها/ كى ما أبيح لنفسى بعض ما مُنعا.. كنيتها لأوفيها قداستها/ وأشبع النفس من بث الغرام مَعًا».

يمكن أن نعتبر «ليلى»، شيئًا معنويًا، روحًا أو فيضًا أو تجليًّا، وهى بالتأكيد معنى منزهٌ عن أى تكوين أو شكل حسىٍّ، هى نداء يهيم به أهل الله فى حضرتهم، فيرددون وقلوبهم خفاقة: «سلبت ليلى/ منّى العقلا.. قلتُ يا ليلى/ ارحمى القتلا.. حبها مكنون/ فى الحشا مخزون.. أيها المفتون/ هِم بها ذلا»، وهو الشعر المنسوب لأبى الحسن الششترى ولابن عربى أيضًا.

وحمل مُنشدونا هذا الميراث العظيم، وصار التغنى بـ«ليلى» أسلوب مناجاة واستلهام وطلب للمدد فى المدائح الصوفية، وتعلق شعبنا الكريم بهؤلاء الرائعين، وهاموا بما تركوه من فضل وكرامات.

ما عليك إلا أن تفتح موقع «يوتيوب»، وتكتب فى خانة البحث: الشيخ أحمد برين أو التونى وقصائدهما عن «ليلى»، ثم أطلق لروحك العنان.. دع التيار يجرفك، افتح ضلوعك واملأها بملكوت الحق، واسمح لأُذنك بأن تتربى وتترقى فى عوالم هؤلاء الأصفياء والعباقرة.