لغز يحيرنى
سؤال محير سأله سيجموند فرويد 6 مايو 1856 - 23 سبتمبر 1939:
" كيف يتحمل البشر التعايش السلمى مع كل هذه الأكاذيب التى يمارسونها من الصباح وحتى المساء ".
العالم النفسى الشهير فى فك أسرار النفس البشرية ، وادراك المخفى من وجوه البشر وسلوكياتهم ، وعلاج عقدهم واضطراباتهم ، يحيره سؤال : " لماذا يكذب الناس ويتحملون الكذب طوال ال24 ساعة على حد قوله .
وقد توصل فرويد الى أن الكذب احتياج نفسى ، بدونه يعجز الناس عن الحياة .
وبدورى أنا أستعير سؤاله المحير ، ليصبح واحدا من الألغاز المعقدة . محاسن الأخلاق شعارات وزخرفة واستعراض ، كلها أكاذيب .. كذب فى كذب ، نصحو ونغفو على الأكاذيب ، ملابس أنيقة بداخلها عناكب وحشرات ، سلوكيات تسمم الحياة . فالحياة بأخلاق كاذبة وللدعاية ، تماما كاسم . وعلى الرغم من أن هناك وصية دينة اسمها : " لا تكذب " ، الا أن الشعب المتدين بفطرته له رأى آخر .
سؤال منطقى ... كيف نحرص كل الحرص على صوم رمضان ، وعلى أداء
كل الفرائض الدينية ، بشكل لا يخلو من الدعائية ، والمظهرية ، ونعيش فى
مجتمع متخم ، بمكبرات الصوت ، بالحديث عن استقامة الأخلاق .. والدعوات الدينية الى محاسن الأخلاق ، والفتاوى المنهمرة علينا فضائيا ، وأرضيا ، عن أهمية وضرورة مكارم الأخلاق ، وخطب الجمعة كل أسبوع ، التى تنادى بحُسن الخُلق ، ومع ذلك ، فالانحدار الأخلاقى ، يحاصرنا من كل اتجاه ؟؟.
اللغز الذى يحيرنى ، هو كيف مع انتشار ، واستمرار الوازع الدينى ، وفى كل شبر فى مصر ، ويخيف الناس من العقاب الالهى المتربص ، الشديد ، لو تركوا الطريق المستقيم ، نجد أن الطرق غير المستقيمة فى كل مجال ؟؟.
كل سنة مع بداية رمضان ، أسمع عن واجب تشريع ، أو قانون ، يجرم الافطار
جهرا فى نهار رمضان . هل يتوافق هذا مع " لا اكراه فى الدين " ، أم أنه ارهاب
من الدرجة الأولى ، باسم الصوم ، والفرض الالهى ؟؟ . هل نحن نتقدم فى الانفتاح ،
والتعدد الحضارى ، أم نمشى الى المزيد من التعصب ، والتطرف ، والتحكم فى الناس ، والارهاب ، تحت اسم فرض " الصيام " ؟؟.
وعندما تقرر وزارة الأوقاف ، تنظيم فوضى مكبرات الصوت فى المساجد ، والجوامع ، فى شهر رمضان ، وجدنا أصوات غاضبة ، مستاءة ، تعتبر هذا القرار ، قلة ايمان ، وقلة اسلام ، وقلة تدين . وكأن الايمان ، والاسلام ، والتدين ،
لا يكتمل ، ولا يؤدى رسالته ، الا بانتهاك حرمة خصوصية الناس فى بيوتهم .
الايمان شئ ، واستعراض الايمان بالصخب ، والترهيب ، شئ آخر مناقض ، معيب .
كان لابد لمجتمعاتنا ، بكل طقوسها الدينية ، وصوتها المرتفع بالميكرفونات ، أن تصبح أفضل المجتمعات أخلاقيا ، هذا لم يحدث .. لماذا ؟؟. لماذا لم يؤدى الصوم المتراكم فى رمضان ، عبر زمن طويل ، الى الصوم عن مفاسد الدنيا ، ومتاعها
الزائل ، وغرورها الأحمق ؟؟.
عندما تفضح وسائل الاعلام ، امرأة فاسدة ، أو رجلا فاسدا ، أسمع أصواتا ، يؤدى أصحابها الطقوس الدينية ، فى مواعيدها ، وبحذافيرها ، تقول :
" ليس العيب أنه سرق أو اختلس ، أو أخذ رشوة ، لكن العيب أنه لم يكن حريصا بالقدر الكافى حتى لا يُكشف أمره ". نعم ، وصلنا الى هذا الحد ، من التأقلم مع الفساد ، وتبرير التلوث الأخلاقى .
أطباء يعلقون آيات قرآنية ، على الحائط فى عياداتهم ، ولا يبدأون مواعيد الكشف فى رمضان ، الا بعد الافطار ، والانتهاء من صلاة التراويح . لكن هذا لا يمنعهم من استنزاف فلوس المرضى ، والتربح على جثث أصحاب الداء .
مستشفيات تضع على الحائط ، صورة الحشود فى الحج ، وترمى المرضى
فى الشارع ، قبل دفع آلاف الجنيهات تأمين ، وضمان ، لعدم موت المريض قبل
أن يسدد الفواتير الخيالية ، والتى اذا رآها الانسان بعد أن يشفى ، سيمرض مرة
أخرى ، أو سيقع دون قيامة .
ذكور فرحون بشبابهم الذكورى ، بعد التهام طعام الافطار ، وانتهاء الصوم ،
ينزلون الى الشوارع ، يتحرشون بالفتيات ، والنساء ، كنوع من التسالى حتى موعد السحور .
محلات تغلق أبوابها وقت صلاة الجمعة . وبعد الصلاة تواصل الغش فى
فى البضاعة ، وفى الأسعار .
تاكسيات تكتب على الزجاج الخلفى للسيارة : " لا اله الا الله ..
محمد رسول الله ".... ومعاملة السائق خشنة ، جشعة ، وهى تستمع فى الراديو ،
الى آيات من الذكر الحكيم .
كيف أصبحت الشتائم ، والبذاءات ، والتهكم المهين ، والاتهامات الوضيعة ،
والخيالات المريضة ، هى لغة " التعبير عن الرأى المخالف " ، فى مجتمع يتسابق
للاعلان عن شهر رمضان ، وبركة شهر رمضان ، والتعبد فى شهر رمضان ، والتهجد فى شهر رمضان ؟؟.
لست قلقة على حالنا من الناحية الاقتصادية . فكل أزمة اقتصادية ، معروفة السبب ، والحلول . ولا يخلو أى مجتمع من المعاناة الاقتصادية ، مهما عظم شأنه ،
وازدهرت قدراته ، وموارده . بل ان بعض التعثر الاقتصادى ، ضرورى ، لاستنهاض
الهمم ، وتحفيز الارادة الكامنة ، الى المزيد من الانجازات .
لكننى قلقة ، على حالتنا الأخلاقية ، وتدنى السلوكيات الحضارية ، التى وصلنا
اليها ، رغم أننا نصلى ، ونصوم ، ونحج ، ونزكى ، ونعتمر ، ونقيم صلوات التراويح ،
ونمسك السبح ، ونبسمل ونحوقل ، ونرسل ذريتنا الى مدارس وكتاتيب تحفيظ
القرآن ، ولا شئ يسعدنا قدر تغطية النساء ، بالأقمشة ، وذكورية القوانين الجائرة .
ما جدوى الاقتصاد المزدهر ، طالما الذى ينعم به ، انسان فقد نقاء الأخلاق ،
ونزاهة الأخلاق ، واتساق الأخلاق ؟.
انسان " صائم " ، عن لذات الطعام ، والشَراب ، والجنس ، لكنه " يفرط "
فى التهام نبل الخلق ، ورقى المشاعر ، وأدب السلوك . انسان " ممتنع " عن
دخول أى شئ يدنس الفم ، " مرحب " ، بكل الأشياء التى تدنس النفس ، والعقل ،
والقلب .
من بستان قصائدى
-------------
زهرة فى الأرض الخراب
--------------
منْ قال لكم
أننى أريد هذه الحياة ؟
لماذا توقعتم أننى
سأنتمى الى عالمكم هذا ؟
منْ قال لكم
أننى أتقبل توالى الليل والنهار
وغدر الجسد الذى أحمله
والعواصف الربيعية الممتلئة بالغبار ؟
منْ قال لكم
أن مزاجى وطباعى ودمى
يرضى بهذا العبث واللاجدوى والسراب
و سأبتلع السم فى الطعام والشراب ؟
كيف للزهرة المنتزعة من الحدائق
أن تتأقلم فى الأرض الخراب ؟
منْ قال لكم
أن لى مكانا هادئا ساكنا آمنا
تحت الشمس الحارقة الصاخبة ؟
وبيتا دافئا برائحة القهوة والبخور والورود
يأوينى .. يعزلنى عن التفاهات والتقاليد والجحود ؟
منْ قال لكم
أن روحى تحتمل الظلم الذى تعبدون
والقهر النائم فى فراشكم وله تسجدون ؟
منْ قال لكم
بقلبى متسع لذكريات تئن من الندم
وألم لا يكف عن الصهيل
وحياة مهما تتجمل وتراوغ وتتخفى
فهى عدم ؟