رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعب فى الركبة!

كانت لدىّ منضدة صغيرة تفسخت قوائمها وأردت إصلاحها، وذات يوم وأنا فى طريقى إلى البيت شاهدت إعلانًا بالبوية على حائط طابق أرضى: «أبوالسيد. نجار. منزل رقم كذا.. تليفون رقم..». قلت لنفسى: «ممتاز». اتجهت مباشرة إلى العنوان المذكور، وهناك رأيت امرأتين ممتلئتين جالستين تحت شرفة الطابق الأول تثرثران، واحدة تبيع فطيرًا «مشلتت» والثانية لا تبيع فطيرًا، مكتفية بالجلوس ووضع يدها على خدها. سألت عن أبوالسيد النجار، فردت البائعة: وحضرتك مش عاوز فطير؟. قلت: لأ، شكرًا. فانصرفتا إلى الثرثرة. قلت: النجار موجود؟. قالت: لأ.. اتصل به. قلت: والتليفون عنده شغال؟ قالت: التلفون شغال.. النجار هو اللى مش شغال، أبوالسيد بعيد عنك جاله تعب فى الركبة. أضافت الأخرى: لكن محمود النجار موجود وشغال. استفسرت: طيب فين محمود؟. قالت: ح تلاقيه قاعد بيلعب طاولة مع صبحى الكهربائى فى المحل آخر الشارع. 

اتجهت لمحل صبحى الكهربائى.. محمود عندك؟. قال: أى محمود؟ أصل لا مؤاخذة عندنا ثلاثة محمود. قلت: النجار. صاح: آه.. فهمت، شوفه جنب محل الكفتة عند ربيع الحلاق، كان بيعمل له رف خشب. ذهبت لعم ربيع، وما إن نطقت باسم محمود حتى ضحك الحلاق العجوز بسرور كأنه تذكر شيئًا مفرحًا وسريًا فى الوقت نفسه، وقال ببهجة: محمود؟!! الله يخرب عقلك يا حودة.. واد مسخرة، شوفه على قهوة السكرية تالت شارع على اليمين. وقهقه يُحدث نفسه: يخرب عقلك يا حودة! سألت الجرسون فى المقهى: محمود النجار هنا؟. جاى حالًا، تشرب إيه حضرتك؟. قهوة مضبوط. جلست، وبعد نصف ساعة ظهر رجل من سنى تقريبًا يسأل عن النجار. قلت له: تفضل، اجلس، وأوضحت له أن أبوالسيد لا يعمل حاليًا لأنه جاله تعب فى الركبة، لكن محمود هو اللى شغال. سألنى الرجل: ومحمود ألقاه فين؟. قلت له: أنا قاعد أنتظره. كلمة منى وكلمة منه سألنى: وحضرتك أصلًا من فين؟ قلت: من طنطا!. صاح: الله من فين فى طنطا؟. من شارع كذا. معقول! طيب الاسم إيه بالكامل؟ عرفته بنفسى، فصاح: يا نهار أبيض؟! من بيت الحاج عبدالجواد؟! ونهض وأخذنى بالأحضان قائلًا: ألا تعرفنى؟ أنا ابن بنت عمتك الكبيرة نفيسة.. الله يرحمها! وأقسم الرجل بكل المقدسات أن يصحبنى معه إلى طنطا لنتغدى عند أخته الكبيرة سهام وبذلك نصل ما انقطع من صلة الرحم. حاولت أن أرفض، فعاتبنى: إزاى؟ دى سهام تزعل قوى لو لم تجئ. 

ركبنا سيارة من رمسيس وبعد ساعتين كنا نأكل ملوخية وأرانب عند سهام وزوجها يحرك طاقيته فوق رأسه من وقت لآخر مغمغمًا: «أهلًا وسهلًا». وبدأ الأقارب يتوافدون بعيالهم ونسوانهم، وكل واحد منهم يحتضنى ويقبلنى ويهز يدى بحرارة حتى انخلعت ذراعى، وحل الغروب وبدأت أشعر بالإرهاق فنهضت محتضنًا الحاضرين مودعًا فردًا فردًا مترحمًا على الحاجة نفيسة. فى طريقى إلى البيت صادفت ورقة بإعلان على حائط «الأسطى حسنين النجار». لمحنى صبى أتطلع إلى الرقم فوثب ناحيتى: عاوز الأسطى حسنين؟ قلت له بحزم: لأ شكرًا، مش عاوز. وقلت لنفسى: «تفسخت قوائم المنضدة، هذه حال الدنيا، جميعنا إلى زوال»، وأسرعت نحو بيتى، والصبى يجرى خلفى هاتفًا: «أنادى لك حسانيين.. حسسانييييين».