رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولاية «شي» الثالثة.. العصر الصينى الجديد.. وجمهوريتنا الجديدة

لولاية ثالثة، غير مسبوقة، جدّد البرلمان الصينى، بالإجماع، انتخاب شى جين بينج رئيسًا لجمهورية الصين الشعبية، أمس الجمعة، بعد أن تم تمديد رئاسته للحزب الشيوعى الصينى، منتصف أكتوبر الماضى، خلال المؤتمر العشرين للحزب، الذى يصف عهد «شى» بـ«العصر الجديد»، أو المرحلة الثالثة من تاريخ الصين المعاصر، بعد مرحلة ماو تسى تونج، التى وحّدت البلاد بعد حرب أهلية طاحنة، ومرحلة دنج شياو بينج، التى جعلتها ثانى أكبر قوة اقتصادية فى العالم.

الفترة الرئاسية الجديدة، أو الولاية الثالثة، كالفترتين أو الولايتين السابقتين، مدّتها خمس سنوات، وفيها سيكمل الرئيس الصينى، الذى سيحتفل منتصف يونيو المقبل بعيد ميلاده السبعين، تنفيذ منهجه، تصوّره، أو «فكر شى جين بينج حول العصر الجديد للاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، الذى تم تضمينه فى ميثاق الحزب الشيوعى الصينى، والقائم على ١٤ مبدأ، أبرزها «تأكيد الوحدة والثراء»، أو البناء على ما تم إنجازه فى المرحلتين السابقتين.. و«تعظيم قدرات جيش الشعب»، ليصبح الأقوى عالميًا بحلول منتصف القرن الحالى، و«إعادة توحيد الأقاليم مع الوطن الأم»، فى إشارة إلى هونج كونج وتايوان، وجعل الصين أكثر انضباطًا داخليًا، وذات دور أكبر خارجيًا.

رئيس الدولة، صاحبة أكبر ميزانية دفاعية فى العالم، كان قد تعهّد، خلال افتتاحه المؤتمر العشرين للحزب الحاكم، بتسريع التطور العسكرى، وقال إن الهدف الأساسى لـ«جيش التحرير الشعبى» هو «حماية كرامة الصين ومصالحها الأساسية». وهنا، قد تكون الإشارة مهمة إلى أن هذا الجيش كان يوصف بأنه «أكبر متحف عسكرى فى العالم»، قبل أن يتمكن «شى» من إعادة هيكلته وبناء قواته البحرية وتطوير ترسانته النووية. ومع تعهده بتسريع التطور العسكرى، قال إنه سيعزز تطوير التكنولوجيا و«يضمن تأمين» مصادره الغذائية وسلاسل التوريد الصناعية، بـ«الاعتماد على الذات» وبإطلاق «مشروعات وطنية كبرى» طويلة الأجل.

 

خلال السنوات العشر السابقة، واصل التنين الصينى تطوره وصعوده السريع إلى قمة النظام الدولى، اقتصاديًا، وسياسيًا وعسكريًا، وأملًا فى مواصلة هذا الصعود، دعا «شى» الصينيين، مساء الإثنين الماضى، خلال جلسة برلمانية، إلى تعزيز استقلالية بلادهم، وجعلها أقل اعتمادًا على الدول الأجنبية.. وشدد على ضرورة «التزام الهدوء والتركيز، للتحرك بشكل استباقى وإظهار الوحدة والتحلى بالشجاعة للقتال من أجل تحقيق النجاح»، فى مواجهة «التغيرات العميقة والمعقدة التى تحدث فى العالم، كما فى الصين».. ولم يفت الرئيس الصينى أن يندّد بالحملة الغربية، التى تقودها الولايات المتحدة، لـ«احتواء وتطويق وقمع» بلاده.

بسبب اختلال الميزان التجارى بين الصين والولايات المتحدة، لصالح الأولى، وبسبب قفزات بكين الاقتصادية والعسكرية وتفوقها فى قطاع التكنولوجيا المتقدمة، توترت العلاقات بين البلدين، وتكررت اتهامات واشنطن لبكين بـ«التجسس» عليها، وتزايدت التدخلات الأمريكية فى شئون الصين الداخلية، سواء بزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، أو دعم الديمقراطية فى تايوان، أو بمزاعم أخرى. والشهر الماضى، تسبب منطاد صينى، أسقطه الجيش الأمريكى، فى مزيد من التوتر فى العلاقات بين البلدين، بعد أن زعمت الولايات المتحدة أنه «انتهك الأجواء الأمريكية لأغراض تجسّسية»، فى حين أكدت الصين أنه دخل المجال الجوى الأمريكى عن غير قصد، لإجراء أبحاث تتعلق بالأرصاد الجوية. غير أن ما سكب القدر الأكبر من البنزين على نار التوترات، أو الخلافات المشتعلة، هو التقارب الصينى الروسى، قبل وبعد الأزمة الأوكرانية. إذ تفادت بكين، منذ بداية الأزمة، انتقاد روسيا، وحمّلت الغرب ودول الناتو مسئولية تفاقم الصراع بين الروس والأوكرانيين، بسبب توسع الحلف شرقًا. كما عارضت الصين، ولا تزال، استخدام «العقوبات غير المشروعة التى يفرضها جانب واحد دون تفويض دولى»، وأكدت أنها ستواصل التعاون التجارى المعتاد مع روسيا بروح الاحترام والمساواة والمنفعة المتبادلة، وفى ضوء الشراكة الاستراتيجية واسعة النطاق، التى وقعها الرئيسان الصينى والروسى، فى ٤ فبراير ٢٠٢٢، ونصت على أن البلدين يدعمان المنظومة التجارية متعددة الأطراف، المبنية على دور منظمة التجارة العالمية الرئيسى، ويعارضان أى إجراءات أحادية الجانب.

 

المهم، هو أن التنين الصينى، لم يواصل تطوره وصعوده السريع إلى قمة النظام الدولى، خلال السنوات العشر الماضية، منفردًا، بل أراد، أو حاول، أن يصطحب معه الدول الصديقة والحليفة «نحو مجتمع أقوى ومستقبل مشترك عن طريق التعاون المربح للجميع». وتحت هذا العنوان أو الشعار، وعناوين وشعارات شبيهة، أقيمت قمم «منتدى التعاون الصينى الإفريقى»، فوكاك، و«القمة الصينية العربية»، وبهدوء وحذر، لكن بثبات، قامت بكين ببناء نمط جديد من العلاقات مع الدول الإفريقية والعربية، قائم على الاحترام المتبادل والتنمية الاقتصادية، دون أى تدخل فى شئون الدول الداخلية، أو محاولة تصدير أفكار غير ملائمة.

وفق هذه المعادلة، وفى ظل القيادة الحكيمة لرئيسى الدولتين، استند التعاون المصرى الصينى، ولا يزال، إلى تفهّم كل طرف لمصالح الطرف الآخر، السياسية والسيادية والوطنية، بما يتطلبه ذلك من تدعيم الركائز الأساسية للعلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية والعسكرية. وتكررت دعوات الرئيس «شى» إلى بذل الجهود المشتركة لبناء مجتمع المستقبل المشترك للصين ومصر فى العصر الجديد. وبعد إطلاق حوار استراتيجى مشترك على مستوى وزيرى خارجية البلدين، سنة ٢٠١٤، قام الرئيس الصينى بزيارة تاريخية إلى مصر عام ٢٠١٦، أفسحت المجال لقرار مشترك بمواصلة الارتقاء بالشراكة الاستراتيجية الثنائية الشاملة.

قبل هذه الزيارة، وبعدها، تكررت زيارات الرئيس عبدالفتاح السيسى للصين، التى بدأها فى ديسمبر ٢٠١٤، قبل أن يحتفل مع شعبها، فى سبتمبر ٢٠١٥، بعيد النصر الوطنى وبالذكرى السبعين لانتهاء الحرب العالمية الثانية. كما كان ضيفًا خاصًا على قمة مجموعة العشرين، فى سبتمبر ٢٠١٦، وذهب فى سبتمبر التالى للمشاركة فى فعاليات الحوار الاستراتيجى حول تنمية الأسواق الناشئة والدول النامية، المقام على هامش الدورة التاسعة لقمة مجموعة الـ«بريكس»، وفى سبتمبر ٢٠١٨، شارك الرئيس فى قمة «فوكاك» الثالثة، التى أعلنت فيها بكين عن إجراءات جديدة لتعزيز التعاون مع القارة السمراء، وتسريع وتيرته بجودة وفاعلية. وجددت الدعوة لمجتمع أقوى بمستقبل مشترك للصين وإفريقيا، وبحثت أفضل سبل الاستفادة المشتركة من مبادرة «الحزام والطريق»، التى ربطتها بأجندات التنمية الإقليمية والعالمية والمحلية.

أيضًا، فى ٥ فبراير الماضى، استجاب الرئيس السيسى لدعوة الرئيس «شى»، وشارك فى افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية الرابعة والعشرين، «بكين ٢٠٢٢»، ووقتها، رحّب الرئيس الصينى، للمرة السابعة، بزيارة الرئيس، مثمنًا ما تشهده الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين من تطور إيجابى على جميع الأصعدة، ومتطلعًا إلى تعزيز التواصل والتشاور حول الموضوعات الإقليمية والدولية، ومؤكدًا أن بلاده تولى أهمية خاصة لعلاقاتها مع مصر، نظرًا لمحورية دورها فى محيطها الإقليمى، سواء على مستوى الشرق الأوسط أو القارة الإفريقية أو منطقة شرق المتوسط. وناقش الرئيسان سبل تعزيز التبادل التجارى بين البلدين، واستعرضا المشروعات المشتركة فى المجالات المختلفة، وتوافقا على أهمية الدور الذى تضطلع به المنطقة الاقتصادية لقناة السويس فى تعزيز مبادرة «الحزام والطريق»، وعلى ضرورة دعمها لكى تحقق الأهداف المرجوة منها، خاصةً من خلال المنطقة المصرية الصينية للتعاون الاقتصادى والتجارى، التى تسهم فى دفع جهود مصر لتوظيف الموقع الاستراتيجى المهم لمحور القناة، حتى يصبح مركزًا لوجستيًا واقتصاديًا عالميًا. كما ناقش الرئيسان سبل دعم الشراكة والتعاون الثلاثى بين البلدين فى القارة الإفريقية، على أساس الملكية الوطنية لبرامج التنمية وأجندة التنمية الإفريقية ٢٠٦٣ وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة ٢٠٣٠. واتفقا على ضرورة استمرار التنسيق والتعاون، سعيًا إلى تحقيق الاستفادة المثلى لدول القارة من مبادرة الحزام والطريق.

التقى الرئيسان، أيضًا، فى ديسمبر الماضى، على هامش مشاركتهما فى «القمة العربية الصينية»، وخلال هذا اللقاء، كرّر الرئيس الصينى إشادته بالدور المصرى تحت قيادة الرئيس السيسى، فى تعزيز الاستقرار والأمن فى الشرق الأوسط، وهو الدور الذى تعول عليه الصين فى إقامة شراكة صينية عربية. وكان أبرز ما شهدته تلك القمة، هو ذلك التطابق شبه الكامل بين رؤية مصر، التى طرحها الرئيس فى كلمته، وما تضمنه البيان الختامى للقمة، الذى شدّد على ضرورة تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية والصين القائمة على التعاون الشامل والتنمية.. ودعا إلى احترام سيادة الدول ورفض التدخل فى شئونها الداخلية بذريعة الحفاظ على الديمقراطية.. وأكد مركزية القضية الفلسطينية وإيجاد حل عادل ودائم لها على أساس حل الدولتين.. وطالب بتعزيز جهود مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله وصوره ودوافعه.. و... و... اتفقت خلاله الدول العربية والصين على دعم جهود إيجاد حل سياسى للأزمة الأوكرانية يضمن المصالح الجوهرية لكل الأطراف.

 

لم يدهشنا هذا التطابق، ليس فقط بسبب ثقل مصر العربى والإقليمى وعلاقتها التاريخية الممتدة مع الصين، ولكن أيضًا لتقارب وجهة نظر البلدين، وموقفهما المحايد من الأزمة الأوكرانية، التى وقفت مصر، منذ بدايتها، على مسافة واحدة من كل أطرافها، حدّدت طولها، وأطرها السياسة الخارجية الأوسع، التى تبنتها مصر منذ ٢٠١٤، أو دولة ٣٠ يونيو، أو الجمهورية الجديدة: الندية، الاحترام المتبادل، عدم التدخل فى شئون الدول الداخلية، والحفاظ على الدولة الوطنية واحترام سيادتها؛ بوصفها حجر الأساس فى بناء النظامين الإقليمى والدولى. ومن تلك المسافة، أو وفق هذه الأطر، دعت الدولة المصرية، قيادة وحكومة، فى كل اتصالاتها المتعلقة بالأزمة الأوكرانية إلى إجراء مفاوضات تؤتى بنتائج تنهى الصراع وتلبى مصالح كل الأطراف. وكان هذا، فى رأينا، أو غالبًا، هو نفسه موقف، أو هدف الصين، التى تقوم علاقاتها السياسية والاقتصادية والدبلوماسية مع روسيا على المصلحة المتبادلة، والرغبة المشتركة فى تحقيق التوازن مع الولايات المتحدة. 

هكذا جاءت الوثيقة، التى حملت عنوان «موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية»، ونشرتها الخارجية الصينية فى ٢٤ فبراير الماضى، تزامنًا مع الذكرى الأولى لبداية الأزمة، لتدعو كل الأطراف إلى الالتزام بالنقاط التالية: احترام سيادة كل الدول.. التخلى عن عقلية الحرب الباردة.. وقف الأعمال العدائية.. استئناف محادثات السلام.. إيجاد حل للأزمة الإنسانية.. حماية المدنيين وتبادل أسرى الحرب.. الحفاظ على سلامة المنشآت النووية.. تقليص الأخطار الاستراتيجية.. تسهيل تصدير الحبوب.. وقف العقوبات الأحادية الجانب.. الحفاظ على استقرار سلاسل الصناعة والتوريد.. ودعم مرحلة إعادة الإعمار. 

.. وتبقى الإشارة إلى أن مصر ستكون هى دولة الاستضافة العربية التالية لـ«القمة العربية الصينية»، التى استضافت السعودية دورتها الأولى، وأشار الرئيس السيسى، خلالها، إلى أن الحضارتين العربية والإسلامية تلاقتا مع الحضارة الصينية العريقة على قاعدة متينة وراسخة من التواصل الإنسانى والثقافى والتجارى، وأننا خضنا معًا، فى التاريخ الحديث، معارك متعددة من أجل التحرر والاستقلال السياسى، والتنمية وبناء الاقتصاد، وما زلنا نعمل على إقرار نظام عالمى أكثر عدالة، يتأسس على القيم الإنسانية وقواعد القانون الدولى.