«ثرثرة فوق النيل» بين رواية محفوظ ورؤية حسين كمال
منذ أسابيع قليلة أعلنت سينما زاوية بالقاهرة عن إقامة مهرجان لعرض بعض الأفلام المأخوذة من روايات نجيب محفوظ أو السيناريوهات والقصص التي كتبها محفوظ للسينما بشكل مباشر، وذلك بالتعاون مع ديوان للنشر والتوزيع التي تملك حقوق نشر أعمال محفوظ.
كنت حريصًا منذ الإعلان عن الأفلام المشاركة في المهرجان على مشاهدة فيلم "ثرثرة فوق النيل" على الشاشة الكبيرة، وهو الفيلم الذي أرى أنه من الضروري أن يشاهده المصريون أكثر من مرة، لأنه يمس جوهر وصلب الأزمة المصرية سواء في العصر الذي يتحدث عنه الفيلم أو في أي عصر آخر، وليس فقط لأنه من أهم أفلام مخرجه.. أو لأن الرواية الأصلية واحدة من أهم روايات أديب نوبل، ولكن ببساطة لهذه الأسباب التي سنحاول تناولها هنا باختصار وهي النقاط التي تجمع بين رواية محفوظ وفيلم حسين كمال.
ولكن في البداية يبدو أن الفارق الوحيد بين الفيلم والرواية أن الرواية كتبت وتدور أحداثها في الفترة السابقة لنكسة يونية 1967، بينما الفيلم تدور أحداثه في الفترة التالية للهزيمة التاريخية، ولكن كلا العملين ركزا بشدة على الأسباب التي تقودنا كمجتمعات نحو الهزائم سواء الاجتماعية أو العسكرية.
في الرواية تفوح رائحة هزيمة اجتماعية حيث العوامة التي يجتمع فيها كل أفراد الشعب، هؤلاء الذي من المفترض أن يكونوا رمزًا للناس وقدوة بل ومشكلين لوعيهم وثقافتهم ومن عوامل تنويرهم وتقدمهم، بداية من الموظف المثقف المطلع على نتاج الفلسفة الإنسانية.. صاحب الخلفية الثورية وهو أنيس الذي تدور حوله أحداث الرواية والفيلم، ثم الممثل والكاتب والصحفي والمحامي رمز العدالة داخل كل من الرواية والفيلم، كل هؤلاء هم انعكاس واضح وصريح ومباشر لرؤية محفوظ وانطباعه تجاه واقع حقيقي المسؤولون فيه عن عقول الناس هم في واقع الأمر مغيبون عن الواقع، في الفيلم نراهم يمرون من أمام الصحف المكتوب عليها مانشيتات:
"استئناف القتال على امتداد الجبهة"
"قتال عنيف بالمدفعية 7 ساعات"
دون أن يبالوا بأي شيء، أو يلتفت أحدهم ليسأل طوال الفيلم لم يتم ذكر أي حدث سياسي أو اجتماعي يحدث خارج العوامة وكذلك في الرواية، لأنهم مقتنعون أن دورهم في الحياة الاجتماعية لن يؤتي ثماره، أي أن هناك حربا ومعركة تدور وتحولات تجري في المجتمع في الوقت الذي ينعزلون هم فيه عن كل ذلك حيث العوامة.
فكرة العوامة في جوهرها هي إسقاط أكثر من عبقري من صاحب الفكرة نجيب محفوظ، الذي وضع كل هؤلاء في وضع غير مستقر معتز ومضطرب باستمرار، هذه صورة لإنسان في مجتمع كان لا يزال يخطو أولى خطواته المضطربة في مسيرة غير واضحة المعالم، بالإضافة إلى مكان العوامة حيث ضفاف النهر الذي شهد على كل شيء منذ فجر التاريخ والذي جعلنا نبني حضارة عظيمة في وقت سابق أصبحنا الآن لا نتذكر منها إلا الخرافات كما رأينا في الفيلم، حيث الشابة التي تقف أمام التمثال الأثري في خشوع وشبه عبادة وحين يسألهم أحد عما يفعلون يكون الرد إنها عادات وتقاليد منذ أجدادنا الفراعنة. أي أننا لم نرث من الحضارة العظيمة ولم نتعلم منها إلا الجهل والخرافة.
في الفيلم والرواية كان في الخلفية ثمة تاريخ عظيم يزدري ويرفض الحاضر المؤلم والمهين للأبطال، ربما كان حضور تلك الثنائية والديالكتيك بين حضارة عظيمة سابقة وتخلف واقعي في الفيلم حاضرة وبقوة وفي أكثر من مشهد وأحد هذه المشاهد المشهد الذي يذهب فيه الأبطال إلى تمثال رمسيس الثاني، وببحث بسيط عن صاحب التمثال وسيرته ستعرف ماذا يقصد حسين كمال من وضع الأبطال فوق هذا التمثال الذي يمثل حضارة عظيمة بأكملها يتم العبث بها في واقع شديد الغرابة.
لم تترك الرواية شيئًا إلا وعالجته أو قدم محفوظ سؤالًا فيه، بداية من الأسئلة الفلسفية الكبرى التي لا يخلو عمل لمحفوظ من مساءلتها، حتى فكرة النفاق الديني الذي يمثله حارس العوامة، نجح محفوظ في تأسيس الشخصيات، فالقارئ يعرف ماضي وتفاصيل كل شخصية مما يجعلنا نعرف الأسباب التي أدت إلى النتيجة الراهنة.
كذلك رسم محفوظ المشاهد بإبداع لا مثيل له، حتى عند قراءتك للرواية قبل رؤيتك للفيلم ستشعر كأنك تشاهد كل هذه الأحداث وأنك شخص من ضمن الأشخاص المغيبين الذين يعيشون في العوامة، مما جعل الرواية تصلح بشدة لتكون عملًا سينمائيًا بديعًا، حتى إن بعض المشاهد التي كتبها محفوظ تعد الآن من المشاهد الخالدة في تاريخ السينما مثل مشهد أنيس أفندي وحواره مع مدير المصلحة التي يعمل بها والذي مثل صورة شديدة الأهمية عن الفساد المستشري في العملية البيروقراطية المصرية، والمشهد الآخر الذي يقول فيه أنيس إنه ينسطل قبل أن يعرف لماذا يحيا؟ سنرى مشاهد أخرى تم نقلها داخل الفيلم كما هي بنفس الكلام الذي كتبه محفوظ.
وبالرغم من أن الرواية والفيلم الاثنان يتخليان عن فكرة الزمن، بحيث تصبح هذه الوقائع مناسبة لكل عصر وزمن، إلا أن الإطار الزمني للعملين والذي كان لا بد منه، هو مساءلة النظام الناصري.. فنرى محفوظ في روايته يقول:
"كيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر؟".
هذا السؤال الذي خرج من محفوظ كان يواجه به نظام ناصر الذي كان لايزال بعد في تلك الفترة يحاول تطبيق النظام الاشتراكي بما يتلاءم مع الأفكار العامة داخل مصر والوطن العربي. وهو سؤال كان من أهم الأسئلة التي كان على النظام آنذاك الإجابة عليها. كذلك في الفيلم نرى لحظة الصدمة التي سيوجهها أنيس بعد ذهابه للجبهة ويرى آثار الدمار الذي حل على مدن القنال بعد الهزيمة والذي يتبعه نهاية مباشرة من حسين كمال حيث يسير أنيس وسط الناس صائحًا: "يا ناس فوقوا".
ولكن في النهاية بكل تأكيد ما تنادي به الرواية وأكده الفيلم هو ضرورة متابعة ومساهمة الفرد لما يحدث على أرض الواقع داخل وطنه، وعدم الاكتفاء بالمشاهدة أو الانعزال التام، حتى لا يكون الإنسان ميتا وهو على قيد الحياة أو كما قال محفوظ في روايته الخالدة:
"ليس ثمة ما هو أفظع من الموت.. ثمة موت يدركك وأنت حي".