«مدينة المليار رأى».. منصات التواصل الاجتماعى تتحول إلى منبع للجهل والتفاهات
لا شك أن ما تلعبه منصات التواصل الاجتماعى ويلعبه الإنترنت فى حياة الإنسان المعاصر، حيث أصبحت جزءًا لا يتجزأ من يوم الإنسان، ومؤثرًا رئيسيًا فى سلوكه وأفعاله، دفع العديد من المؤسسات البحثية والأكاديمية لرصد هذا التحول الذى طرأ على حياة الإنسان فوق ظهر الأرض، ودراسة مدة تأثيرها على الشئون الاقتصادية للفرد داخل المجتمع مرورًا بعمليات التسويق والتزييف والخداع وصولًا لعمليات الهيمنة الفكرية والسياسية.
فى هذا الإطار شديد الأهمية يأتى كتاب «مدينة المليار رأى» لمؤلفه الكاتب الصحفى محمد عبدالرحمن، الصادر حديثًا عن دار دون للنشر والتوزيع. فى البداية يمكن أن نعتبر الكتاب جزءًا من مشروع بحثى يخص الكاتب بوصفه إنسانًا يرصد ويتفاعل ويحلل أبرز التحولات والانطباعات والانفعالات التى يراها، وذلك لأن هذا الكتاب جاء بعد كتاب آخر بعنوان «فلسفة البلوك» لنفس الكاتب.. وينطلق الكتابان من نفس الأفكار الجوهرية التى سنناقش بعضها فيما يلى.
ولكن قبل كل شىء فإن أفضل ما فعله الكتاب هو مساءلة تأثير التحول الرقمى على المجتمع المصرى ومن ثم العربى، تبدأ هذه المساءلة بشكل مباشر من ثانى فصول الكتاب، حيث يطرح الكاتب سؤال الوهم، وكيف يصبح كما قال دريدا أكثر رسوخًا من الحقيقة.
«فلو راجعنا كل ما حملته ذاكرتنا من قصص وحكايات وتقييم للأشخاص والزمان، سنجد منها الكثير القائم على أن وهمًا ترسخ بشكل يجعل من الصعب زعزعته ثم إزاحته ثم إحلال الحقيقة بدلًا منه». فى هذا الفصل وفى باقى فصول الكتاب الكاشفة، لا تتوقف الأسئلة التى تحلل الظاهرة بأسلوب سهل وسلس، لا يعرف اللغة الجافة لبعض الدراسات الأكاديمية والسياسية التى تناقش نفس الظواهر.
وأحد هذه الأسئلة هو سؤال البحث عن المكانة فى العالم الآن، كيف تغيرت مكانة الإنسان فى الواقع بعدد متابعيه فى عالم متخيل؟ ولماذا يتملك الحزن من لا يجد من يعجب بمنشوراته؟! ومن ثم ظهور المنتج عديم القيمة، والذى لا يضيف إلا مزيدًا من الزيف.
لعل هذه الأسئلة التى طرحها الكاتب شغلت عقل الكثير من المفكرين والباحثين فى العالم، ففى دراسة قام بها مركز «بيو» الأمريكى للأبحاث فى ٢٠١٨، لرصد الدور الذى يلعبه الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعى فى حياة الأطفال تم رصد الآتى: شملت الدراسة حوالى ٧٥٠ طفلًا تتراوح أعمارهم من ١٣ لـ١٧ عامًا.. واتضح أن ٤٥٪ منهم يتصلون بالإنترنت بشكل مستمر، وأن ٩٧٪ منهم يستخدمون منصات التواصل الاجتماعى.
هذه الدراسة ربما تشير إلى مدى تعلق الأطفال بهذا التحول، والذى لا شك فيه سيغير فى شكل الإنسان مستقبلًا وتغيير مفاهيمه وأفكاره وسلوكه.. أى أننا أمام جيل جديد سيخلق ويكون أفكاره الخاصة التى لا بد من الانتباه إليها مبكرًا.
وفى دراسة أخرى قام بها نفس المركز عام ٢٠١٦، أثبتت أن وسائل التواصل الاجتماعى أثرت سلبًا على المراهقين، حيث كانت سببًا رئيسيًا فى تشتيت انتباههم، وتقليل عدد ساعات نومهم، وتعرضهم للتنمر، وتصديقهم للشائعات والأكاذيب.
وأن كل المراهقين الذين كانوا محل الدراسة وعددهم ٤٥٠ كلهم بلا استثناء شعروا بالضيق وأصيب بعضهم بالاكتئاب عند حدوث مشاكل أثناء تسجيل الدخول على أحد مواقع التواصل الاجتماعى.
وإذا عدنا للكتاب نرى أنه لا يفارق مقارنة هذه الأرقام بتحولات مجتمعنا الخاص بما يحدث فى الإطار العام للبشرية. وآثار كل هذه الدراسات على واقع المجتمع، فنراه يطرح سؤال التسطيح، حيث عملية نشر التفاهات والبعد عن الاستغلال الإيجابى لتلك المنصات حيث أصبحت منبعًا من منابع نشر التخلف والجهل.
فى المجمل الكتاب يحاول أن ينتشل الإنسان من قبضة تلك الآلة العملاقة التى لو لم يتعامل الإنسان معها بحذر ووعى وعلم، من الممكن وبسهولة أن تدمره، وتبتلعه فى دوامتها اللانهائية.