«ثقافة المقاومة».. لماذا يجب أن نقرأ إدوارد سعيد؟
"الغاية المثالية للدراسات الإنسانية هي تجاوز القيود القسرية المفروضة على التفكير، والمطالبة بنمط من الدراسة المتحررة من السيطرة".
هذه الكلمات التي قالها المفكر والناقد الفلسطيني الأمريكي الكبير إدوارد سعيد، في كتابه الأهم "الاستشراق" يمكن أن تعطينا نبذة مختصرة عن الطريقة التي ينظر بها سعيد إلى الثقافة الإنسانية بوصفها ثقافة واحدة، خلقت نتيجة لفك القيود الاستعمارية المكبلة لها، وساهمت الكثير من الحضارات في صنعها.
وفي كتابها "ثقافة المقاومة" في فكر إدوارد سعيد الصادر حديثًا عن دار العربي للنشر والتوزيع تقوم الدكتورة وأستاذة الأدب المقارن ناهد راحيل بوضع ما يمكن أن نطلق عليه دراسة ومقدمة شديدة الأهمية شديدة التكثيف والتركيز عن فكر إدوارد سعيد. وذلك من خلال القراءة في أبرز كتب سعيد والوقوف أمام بعض النصوص والأفكار التي طرحها للنفاذ إلى عمقها وتأملها.
لمن لا يعرف كان إدوارد سعيد مهتمًا بنقد الخطاب الاستشراقي هذا الخطاب "الذي رسخ رؤية أحادية للحقيقة" حيث رسم صورة معينة للعرب والشرق في أذهان كل من يعيش في الغرب بل حاول هذا الخطاب تشويه الشرق بوصفه خطاب كولونيالي سلطوي في الأساس وعليه أستطاع سعيد "أن يقوض أسس الثقافة الأوربية ويضعها أمام مساءلة معرفية وتاريخية ويكشف عن تلازمها الدائم للمشاريع الإمبراطورية والإمبريالية".
بطريقة أبسط كان سعيد مهتم ومهموم بتحليل وتفكيك الأفكار والانطباعات التي أصبحت عند الغرب والأوربيين بمثابة حقيقة راسخة تجاه غيرهم من العرب والشرقيين وبكل تأكيد المسلمين، وعليه تتبع إدوارد جوهر هذه الأفكار حتى وصل في بداية الأمر إلى أن هذه النظرة وهذا الخطاب الاستشراقي تم تأسيسه كجزء من نظام الهيمنة التي مارستها الامبراطوريات الكبرى لفرض النفوذ والسيطرة على البلاد المستعمرة. ولذا "كان النقد أولى استراتيجياته لتفكيك السلطة الثقافية للغرب ومحاولات فصل ارتباط الثقافة بأرض معينة، ومن ثم القول بتعدد الثقافات، والاعتراف باختلافها، فالثقافات كلها لديه مهجنة إلى درجة فائقة".
ولأن سؤال الثقافة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وجوهر، وكون الثقافة على حد تعبير ماثيو أرنولد "أفضل ما فكر فيه المجتمع وأنتجه". يتطلب إمعان النظر في الطرق التي تكونت من خلالها ثقافة محددة، نعود في الأساس لنعرف جانب آخر من جوانب الخطاب الاستشراقي الذي رفض ترجمة كل ما هو مغاير للسياق الذي وضعه، حيث أن "الثقافة المهيمنة لا تترجم من الثقافة المهيمن عليها إلا ما يتلاءم مع أفكار مستمدة من سياقات تمثيلية سابقة".
ولكن في فترة ما بعد الكولونيالية، أو فترة ما بعد الاستعمار وسقوط الامبراطوريات الكبرى بعد الحربين الأولى والثانية، وحصول أغلب الدول الشرقية ومنهم مصر وشمال أفريقيا على استقلالها، صاحبت تلك الفترة صحوة ثقافية مناهضة ومفككة للثقافة الاستعمارية التي كانت تمارس عليهم اجباريًا.
ولكن الثقافة بمفهومها العام عادت من جديد لتحارب تلك الخلخلة التي طرأت عليها مع حركة التاريخ لتكون هي ذاتها "أرضية الاستعمار الجديد" حيث يمكن للمهيمن على الثقافة السيطرة واستعمار قارات كاملة دون سلاح.
ويرى سعيد أن حل مأزق الثقافة يأتي من ضرورة الحاجة لفعل النقد أولًا، والانفتاح على هويات أخرى، لإقامة هوية ثقافية قائمة على التبادل والتفاعل مع الآخرين. ولن يتم ذلك العبور والتواصل مع الآخر إلا من خلال المثقف العضوي وهو المثقف "الذي يتسم بتطور الأداء وتحول الأدوات بما يناسب تحولات الزمان والمكان". وليس المثقف التقليدي المحافظ.
كل هذه الأفكار والأسئلة شديدة الأهمية التي تخص ماضينا الذي نحتاج الوقوف أمامه ودراسته وتأمله والاستفادة من دروسه، وتخص حاضرنا الذي يحتاج للإجابة على الأسئلة التي تولد كل دقيقة حول دور المثقف وفعل الثقافة في التغيير، يطرحها هذا الكتاب شديد الأهمية الذي يكمل ما بدأه سعيد في البحث مع القارئ عن مخرج لمأزق الثقافة الإنسانية.