رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد عبد الباسط عيد: كتاب «خباء النقد والشعر» يبحث في العقل النقدي العربي عبر المعلقات

محمد عبد الباسط عيد
محمد عبد الباسط عيد " كتاب"خباء النقد والشعر" يبحث في العقل

صدر حديثا عن دار العين للنشر والتوزيع كتاب "خباء النقد والشعر" للكاتب والأكاديمي الناقد محمد عبدالباسط عيد.

قال الناقد محمد عبد الباسط عيد، في تصريحات لـ"الدستور": "هذا الكتاب يأتي ضمن انشغالي بالتراث النقدي والإبداعي على حد سواء، فكما يعلم القراء الكرام، فقد سبق لي أن قدمت إلى المكتبة العربية أكثر من كتاب: النص والخطاب قراءة في علوم القرآن، وكتاب الخطاب النقدي التراث والتأويل وإلى جانب ذلك قدمت قراءات في الشعر القديم عبر كتابين متتابعين: في حجاج النص الشعري، وبلاغة الخطاب.. قراءة في شعرية المديح.

وأشار “عيد” إلى أن "يأتي هذا الكتاب "خباء النقد والشعر" في السياق ذاته، فهو بالأساس بحث في العقل النقدي العربي، وذلك من خلال التركيز على قصيدة امرئ القيس أو معلقته الشهيرة.

ويجيب “عيد” عن سؤال لماذا المعلقات وامرئ القيس تحديدا؟ لأن العرب لا يعرفون شعرًا أشهر من المُعلقات، ولا يُقدّمون على "امرئ القيس" ومعلقته شاعرًا آخر؛ فهو في منظور القدماء الشَّاعر الذي عبّد طريقَ الشِّعر؛ فحدَّد سُبله، وأشْعل خياله، وأنار دَرْب السالكين فيه.. وهو في منظور المحدثين الشَّاعر الذي منح عالم الصّحراء طاقة التّرميز الفنيّة الهائلة؛ فانتقل بها من نثرية العدم إلى خلود الشّعر وحيويته؛ فلم تعد الأطلال بقايا أماكن غادرها أصحابها، ولم يعد رحيل الأحبّة حدَثًا عاديًّا تطويه الرّمال، ولم يعد الفَرَس مجرد حيوانٍ ينتقل به الإنسان من مكانٍ إلى مكان آخر في الصّحراء.

ويلفت عيد إلى أن "تتصدَّر قصيدة "امرئ القيس" هذه المختارات الشعرية الفريدة التي عُرفت باسم "المُعلّقات"، وتتصدّر، من ثمّ، شروح الشُّراح قديمًا ومقاربات النّقاد حديثًا.. لقد حاول كلّ جيل – على مستوى الإبداع والنقد - الاقتراب من هذا الخباء العصيّ، واجتياز ما حوله من حُرّاس ومتاريس؛ كي يظفر - مثل امرئ القيس- بـ"بيضة الخدر" الجوهرة الفريدة التي تأبى أن تكون إلا للمغامر الجسور.

وعبر قرون طويلة، لم تتوقف محاولات الطّامحين والحالمين، منهم من وقع في قبضة الحُرّاس، ومنهم من اكتفى من الرِّحلة بطرْق الخباء فحسب، ومنهم من أبى إلا نزع ستورها ومعانقة "بيضة خدره"، فكان له ما أراد، وهنا رأى من آيات الشعر وفتنة العوالم وبكارة التشكيل ما رأى.. ولكنها "بيضة الخدر"، تأبى أن تكون لأحد بعينه، مهما أوتي من جسارة القلب وعزم الروح وتحليق الخيال.. إنها عنقاؤنا التي تُبْعث بعد كل لقاء بفتنة أشدّ، وسحر بابليّ لا حد لتأثيره ولا قدرة على مقاومته..! 

ويؤكد “عيد” على أن "أحاول في هذا الكتاب أن أكون من هؤلاء الطامحين، أحاول مقاربة هذه الجماليات القديمة طبقًا لمنجزات عصرنا ووسائله، وما يجترحه من نظريات وما يقدّمه من أدوات لمقاربة هذا العالم والنّفاذ إلى أعماقه؛ فمن المهمّ أن نُجدّد وعينا بالشِّعر وفقًا لشروط قرائية مغايرة، تجاوز الشروط التاريخية لإنتاجه.

ولماذا لا نفعل؟ والشعر إرثنا الخالد، وعلى كل (جيل نقديّ) أن يعيد النظر فيه، ويقدِّمه للقرُّاء بأدوات نقدية معاصرة، وعلى نحوٍ يجْسر "الهوّة الجمالية" والوجدانية بين الماضي والحاضر، طبقًا لوعي معرفيّ وإنسانيّ مغاير. وهذا ما قام به خير قيامٍ الأساتذة الرُّواد، وهو ما يجب علينا أن نفعله الآن. وإذا عجزنا عن ذلك أو تقاعسنا عنه اتَّسعت الهوّة بين الحاضر والماضي، وغدا الماضي أفقًا منفصلًا، وليس سيرورة جمالية ممتدّة، نامية متطورة، وليس أخطر من هذه القطيعة على أمّة من النّاس.

وختم “عيد” بالإشارة إلى أن لهذه القراءة هدفان: الهدف الأول: ويتصل بالفضاء المعرفيّ لحقل "نقد النقد"، وفيه نحاول متابعة القراءات التي قدّمها الدارسون قديمًا وحديثًا لشعر المعلقات عامة ومعلقة "امرئ القيس" بشكل خاص، وهي قراءات كثيرة متنوعة حتى ليصعب حصرها، وهذا يعني أننا إزاء قوسٍ نقديّ شديد الاتساع والغنى؛ فعلى امتداده تتجاور الشروح القديمة بتياراتها المختلفة، وانشغالاتها المعرفيّة المتعددة جنبًا إلى جنب مع النّظريات والمناهج المعاصرة، وهي أيضًا مختلفة متنوعة.

ولعلنا لا نبالغ في تصورنا إذا قلنا: إن معلقة "امرئ القيس" جداريّة نقدية ممتدة، تتسع باتساع الانشغال النّقديّ العربيّ: التراثيّ والمعاصر معًا. وقراءة خطوط هذه الجداريّة الخصبة تضع أيدينا على شريحة مكثفة نتابع على صفحتها ومن خلالها تطوّر العقل النقديّ العربيّ: أُسسه المعرفية وتحولاتها، ومضمراته النسقية، وأدواته الإجرائية، وأثره الجماليّ.

لقد حاورت هنا شُرّاح "امرئ القيس" ونقّاده.. وكل حوار– بطبيعته – تفاعلٌ حيٌّ؛ فلا يحاور إنسانٌ إنسانًا دون أن يترك كُلّ منهما على صاحبه بعض روحه وثمار عقله. وحين ينصبّ الحوار على التُّراث فهذا بالضرورة، إدخال للتراث في قالب جدليّ، يستمدُّ أهميته وقيمته من اشتراطات الحاضر وانشغالاته، بكلّ ما تعنيه كلمة الحاضر من ثِقَلٍ ثقافيّ ومعرفيّ؛ فلا تُوجد قراءة تبدأ من فراغ، وكيف ذلك وكلّ قراءة تنطلق من أسئلتها الخاصة التي تُحدِّد بدورها آليات القراءة وغايتها. 

الهدف الثاني: تقديم مقاربة تأويلية من منظور حجاجي لمعلقة "امرئ القيس"، بما هي خطاب جماليّ قابل للتفتح والوجود في الحاضر.. نتابع تجربتها والطريقة التي تشكَّل بها ومن خلالها عالَمها المثمر، نضع أيدينا على المنابع الأولى للجماليّة العربية في ذلك الزمان البعيد، نُجَدِّد وعينا بها، ليس على مستوى الذِّكرى والحنين والحديث عمّا كان، وإنما على مستوى الوعي والكشف و"متعة التذوق". 

عبر هذا الكتاب سنقضي بعض الوقت في رحاب هذا الشّاعر الفذّ في صحراء العرب قبل الإسلام بقرنين من الزّمان تقريبًا؛ نُشاهد هذا العالم الموّار بالفتنة والبكارة، ونتساءل: كيف أقام هذا الخيال اللغويّ الجَسور؟ وإلى أيّ مدى شحنه الفنّان المثقَّف بالأسئلة الإنسانية التي ينشغل بها كُلّ فنّ عظيم في كُلّ زمان وفي كُلّ ثقافة؟  لنقترب - بتقدير ومحبة – من عقل هذا الشاعر وهو يُفكّر ويحلم، ويتساءلُ محاججًا حول الذّكريات والزّمان والمكان والحبّ والموت والولادة والمصير.