إعادة اكتشاف خيرى بشارة فى سينما «زاوية»
- شباب فى العشرين يحتفلون بمخرج «الطوق والأسورة»
- زرياب المثقف عاش انتصارات وهزائم التجربة الناصرية وتحول إلى مشرد لا يملك سوى فنه
- الأستاذ محمد المثقف الوحيد فى القرية الغارقة فى الجهل ذاق أيضًا مرارة هزيمة حرب 48
لا ينفد مخزون مصر من الإبداع أبدًا.. أجيال وراء أجيال فى كل المجالات.. هذا هو المعنى الأول الذى يقفز إلى ذهنك وأنت تتابع احتفاء الشباب المصرى بأسبوع أفلام المخرج خيرى بشارة فى سينما «زاوية».. أما المعنى الثانى فهو أن الفن الحقيقى لا يموت ولا يفقد تاريخ الصلاحية.. يظل قادرًا على مخاطبة كل الأجيال والعقول لأنه أصيل مثل الذهب.. تزداد قيمته كلما مر عليه الوقت.. فى السطور التالية ننشر مراجعة نقدية للكاتب الشاب يوسف الشريف حول سينما خيرى بشارة، وكيف رآها بعين شاب فى أوائل العشرينات.
قد تظن أن فيلم «الطوق والأسورة» إنتاج ١٩٨٦، وفيلم «آيس كريم فى جليم» ١٩٩٢، رغم المساحة الزمنية القصيرة بينهما، فيلمان مختلفان لمخرجهما خيرى بشارة، ولكن الحقيقة أن كلا الفيلمين يحمل نفس المعانى ونفس الدلالات، بالرغم من اختلاف البيئة والزمن الذى تدور فيه الشخصيات والأحداث داخل كل فيلم، لكن الإسقاط على تحولات المجتمع فى الفترة من السبعينيات وحتى التسعينيات حاضرة وبقوة وتكاد تكون واحدة فى كلا الفيلمين، بالرغم من أن الأول قد يبدو غارقًا فى الحزن والبؤس وينتهى نهاية لا تبشر بأى خير، والأخير مبهج ومضحك ومفرح.
فى البداية ومنذ أعلنت سينما زاوية بوسط البلد فى القاهرة عن إعادة عرض أفلام خيرى بشارة المرممة، التى ستستمر حتى نهاية الشهر الجارى، كنت سعيدًا بمدى استجابة وتفاعل الجمهور وتحديدًا الشباب على حضور الأفلام والمناقشات، ومدى انفعالهم وتصفيقهم أثناء مشاهدة الأفلام، وبشكل شخصى كنت حريصًا على أن أشاهد عددًا كبيرًا من الأفلام، وبعد مشاهدة بعضها، توقفت كثيرًا أمام الأفلام التى سنتحدث عنها اليوم، لنجد الرابط بينها، وكيف استطاعت هذه الأفلام رصد التحولات رغم اختلاف الأسلوب الذى استخدمه المخرج فى كل فيلم؟ وكيف استطاع المخرج أن يفرض أسلوبه ورؤيته فى ظل وجود قصة قوية لأدباء كبار سواء يحيى الطاهر عبدالله أو محمد المنسى قنديل؟!
فى البداية يجب أن تعرف بعض الأشياء قد تكون ضرورية لاكتمال الرؤية التى نقدمها، مثل أن خيرى بشارة ولد فى ١٩٤٧ بمدينة طنطا، وإنه تخرج فى المعهد العالى للسينما عام ١٩٦٧ أى سنة الهزيمة التى ستظهر بوضوح فى أفلامه التى سنتحدث عنها، وهو واحد من جيل أطلق عليهم جيل الواقعية الجديدة فى السينما المصرية وهو جيل لا يمكن أن ينسى، قدم للسينما المصرية والعربية والإنسانية أفلامًا لا تمحى من الذاكرة، وصناعًا كتبوا أسماءهم بحروف من ذهب مثل داوود عبدالسيد وعاطف الطيب ومحمد خان وغيرهم.
فى «الطوق والأسورة» حلل وفكك خيرى بشارة الأغلال والقيود التى حالت بيننا وبين التقدم والتى تمثلت فى العادات والتقاليد المتخلفة والجهل والفقر الشديدين، من خلال العودة إلى قرية فى صعيد مصر فى فترة ما قبل ثورة يوليو وقبل وبعد الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين، قرية صغيرة غارقة فى كل أشكال التخلف، وأسباب التخلف والتقدم تكمن فى نفوس وأيدى القاطنين بها، فهم وحدهم الذين يستطيعون فك القيود التى تكبلهم من خرافة وأساطير وتقديس شخصيات ظهرت على الشاشة كرجال دين يتم التعامل معهم وكأنهم مبروكون ومقدسون، وبالتالى هذا الشيخ حتى ولو كان جاهلًا سيتم الإيمان بكل ما يقول والعودة إليه فى كل صغيرة وكبيرة، هذا ما حدث فى الفيلم وهذا ما حدث فى واقعنا مع مشايخ فترة السبعينيات الذين شكلوا الخطاب العام والثقافة الجمعية للعوام وأصبح من المستحيل مناقشة فكر أو قول لهم.. والتعامل مع سيرتهم بشىء من التقديس.
فى الفيلم الثانى «آيس كريم فى جليم» تمثلت القيود فى صورة الأحلام الكبيرة التى يملكها الشباب والتى لا يستطيعون تحقيقها تحت وطأة السياسة الرأسمالية التى انتهجتها الدولة منذ منتصف السبعينيات والتى تمثلت فى قرارات مثل الانفتاح الاقتصادى وغيره.
فى الفيلم يظهر بشارة تأثير هذا التحول الخطير بل ويقارنه ويضعه رأسًا برأس بما حدث سنة ٦٧ من نكسة عسكرية خطيرة، ولكنه وعن طريق الفيلم يرى أن هزيمة المجتمع كأفراد من الداخل أخطر من الهزيمة العسكرية، وذلك عن طريق مشهد طويل شديد الدلالة حين يسير بطل الفيلم فى الشوارع ولكن الكاميرا تنقل لنا ونرى على الشاشة حركة الناس فى الشارع والمحلات التى سنعرف من لقطة أخرى أنها تبيع المهربات والأشياء المستوردة والسلع الاستهلاكية الترفيهية وكل ما تم إقحامه فى جسد الدولة بعد سياسة الانفتاح، الذى أصبحنا حتى الآن نعانى من آثار تلك السياسة الاستهلاكية، فى هذه اللقطة التى نرى فيها حركة الناس وهذه المحلات يجعل خيرى بشارة الخلفية الموسيقية عبارة عن أغنية «موال النهار» التى غناها عبدالحليم حافظ تعبيرًا عن هزيمة يونيو ٦٧.
استمر هذا الإسقاط على الهزيمة المجتمعية فى «آيس كريم فى جليم» عن طريق إبراز بشارة لمدى سقوط وتهميش دور المثقفين بعد عصر عبدالناصر وذلك من خلال شخصية زرياب التى قام بها الممثل القدير على حسنين، فزرياب الذى يتم الإشارة إليه داخل الفيلم ولأكثر من مرة بأنه زوربا ولمن لا يعرف زوربا فهو بطل رواية بنفس الاسم للكاتب اليونانى نيكوس كازانتزاكيس وهى من أهم الروايات وأشهرها على الإطلاق التى تطرح سؤال الحرية وسؤال الفن، هى الأسئلة التى يطرحها الفيلم بأسلوب يكاد يتطابق مع رؤية كاتب الرواية.
وزرياب هو المثقف الذى عاش التجربة الناصرية، المثقف الذى آمن بالأحلام الكبيرة وعاش الانتصارات والهزائم، ويعلق صورة عبدالناصر فى بيته، ولكن مع مرور الوقت ومع انتهاج الدولة لسياسة مؤداها تهميش دور المثقفين وأصحاب الفكر اليسارى تحديدًا فى عصر السادات، أصبح زرياب مشردًا فى الشوارع، لا يملك سوى فنه المقهور وأحلامه المهزومة. ولكن قراءة واحدة فى الزمن الذى تم تصوير الفيلم فيه ستعرفك مدى اغتراب المثقف فى هذا الوقت، حيث جماعات الإسلام السياسى المتطرفة تسيطر على المشهد الثقافى العام ولا تسمح بأى صوت مغاير، حيث اغتيال فرج فودة، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، وعمليات إرهاب وقمع من الفاشية الدينية يتم شنها على كل صوت لا ينضم للقطيع.
زرياب فى «آيس كريم فى جليم» هو وجه آخر من شخصية الأستاذ محمد التى قام بها محمد منير فى «الطوق والأسورة» فكلهم عاش الأحلام الكبيرة التى انتهت بالهزيمة التاريخية، سواء أستاذ محمد المثقف الوحيد فى القرية الغارقة بالجهل والذى وقف فى محطة القطار ينتظر عودة الجنود من فلسطين رافعًا صوته بكلمات قصيدة تمدح شجاعة الجنود الذين سينتصرون على الأعداء ببسالة، هذا قبل أن تقع الكارثة على يافوخه ويعلم أن الجيش انهزم فى حرب ١٩٤٨.
المثقف فى كلا الفيلمين مغترب، يعيش وسط جهل مدقع وإيمان بالخرافة، يرى من حوله الأشخاص يخشون فضيحة العجز الجنسى، فى حين أنهم عاجزون فكريًا، لا يفكرون، مثلهم مثل الأنعام والدواب، فكيف يخشون فضيحة العجز الجنسى ولا يخشون فضيحة الهزيمة الفكرية؟ سؤال شديد الأهمية من ضمن أسئلة كثيرة بلا إجابة، يطرحها بشارة طوال الوقت.
تهميش المثقف فى كلا الفيلمين ظاهر وبقوة، حيث المثقف مشاهد للأحداث وغير مشارك فيها، لا يحاول التمرد عليها فى «الطوق والأسورة» وحين حاول التمرد عليها فى «آيس كريم فى جليم» للمرة الأولى انتهت بالسجن، فلجأ المثقف أو الفنان إلى الحيلة والتظاهر بالعجز حتى يستطيع التمرد.
فى كلا الفيلمين اعتمد بشارة على النظرة شديدة الواقعية التى تكاد تكون تسجيلية فى بعض الأحيان، ولكن فى «الطوق والأسورة» غلب الواقع المأساوى على روح الفكاهة والمرح ربما لينبهنا لخطورة ما يجرى بشىء من القسوة.
ولكن فى «آيس كريم فى جليم» وبالرغم من استخدام بشارة لطريقة عبثية متأثرة إلى حد كبير بأسلوب المخرج الفرنسى جان لوك غودار مؤسس ما أطلق عليه الموجة السينمائية الجديدة، وهو الأسلوب الذى لا يعتمد على السببية لتكوين الأحداث فمثلًا فى الفيلم يمكن أن ترى الأبطال وهم يغنون فى الشارع وفى المشهد التالى نراهم فى السجن، أنت بالطبع ستعرف لماذا تم سجنهم ولكن الفيلم لا يقول هذا، وفى المشهد الذى تلى السجن ستراهم فى الشارع، أنت لا تعرف لماذا دخلوا السجن؟ وكيف خرجوا؟! كذلك يعتمد هذا الأسلوب على بعض المبالغة فى الأداء والتعبير الذى قد يصل بالمشاهد لحد القهقهة فى مشهد يحكى عن مأساة ومأزق وطن.
فبالرغم من وجود المشاهد الحزينة فى كلا الفيلمين إلا أن خيرى لا يتركك أبدًا للحزن فكل مشهد حزين فى كلا الفيلمين يليه مشهد مضحك مبهج، أحيانًا يتم الانتقال من الحزن لشدة الفرح والغناء بشكل مباشر وغير مبرر ولكن مع تكرره يجب أن يعرف المتلقى أن المخرج لا يفعل هذا إلا لهدف ودلالة، فهذا جزء من الحياة فى مفهومها العميق فهى تحمل كلا المعنيين سواء بسواء، فالفرح يأتى بعد الحزن واليسر بعد العسر.. ولا شىء يدوم على حال.. وهكذا. سواء كانت الموسيقى التصويرية شبيهة بالصراخ والبكاء فى «الطوق والأسورة» أو كانت مبهجة فى «آيس كريم فى جليم» ففى كل الأحوال استطاع بشارة بذكاء شديد استخدام اللحظة المناسبة لدخول الموسيقى أو الغناء وكيف تعبر عن الوضع أو عن فكرة الفيلم بشكل عام، حتى إن الاستغلال الذكى للموسيقى والغناء جعل الفيلم الثانى عصيًا على التصنيف فمستحيل أن نقول إن «آيس كريم فى جليم» رغم كل الأغانى التى يحملها هو فيلم غنائى واستعراضى، لأنه بالدرجة نفسها فيلم صدامى واجتماعى شديد الدلالة والأهمية.
قال خيرى بشارة فى بعض لقاءاته التليفزيونية:
«فى آيس كريم فى جليم كنت بناقش أفكار كبيرة، أوضحت وأشرت للفكر الناصرى، والفكر الشيوعى، وسقوط الاتحاد السوفيتى، وناقشت فكرة الشخص الذى لا ينضم لأى فكرة، كنت عاوز أعبر عن تحول المجتمع وإزاى الانفتاح أثر على المجتمع.
فى أفلامى بشكل عام كنت مهتمًا بالتغيير، وكل أفلامى هى محاولة لزرع التمرد والتحدى، وحتى أسماء الأغانى نراها تحمل كلمات مثل (هتمرد على الوضع الحالى) فكل أعمالى تحمل الرغبة فى التخلص من التخلف».
نهاية كلا الفيلمين فى جوهرها واحدة، حيث الطيور الحرة ترفرف بجناحيها فى الدنيا، بالرغم من أن فى «الطوق والأسورة» كانت النهاية صادمة، حيث الجمود مسيطر وسيظل ولا سبيل للتحرر إلا من خلع الأساور والقيود كما تفعل الطيور، وفى «آيس كريم فى جليم» يتمرد الجيل الأحدث من الشباب الذى يشعر بوطأة كل تلك الضغوط والتحولات السياسية والاقتصادية والثقافية، وتكون آخر لقطة للفيلم هى لقطة للطيور التى تطير بحرية فى هذا العالم الشاسع ولكن الفرق بين النهاية الأولى حيث سؤال هل نستطيع فك القيود؟ وبين الانتصار فى الفيلم الثانى فى فك القيود، يطرح أسئلة كثيرة متشابكة سنظل نبحث عن إجابة عنها لطالما كنا لا نستطيع التعلم من الطيور مفهوم الحب والحرية.