«صراع الحضارات».. الأستاذ هيكل ما زال صالحًا لإثارة الدهشة
فى كل فعل كان يقوم به الأستاذ محمد حسنين هيكل، سواء فى كتاباته أو أحاديثه، كان يثبت أنه أكثر من مجرد صحفى مثقف لديه معلومات حول التاريخ والسياسة، بل هو مفكر وفيلسوف من طراز فريد.
ويمكن اعتبار كتاب «على هامش صراع الحضارات» الصادر عن دار الشروق للنشر والتوزيع مختلفًا عن كل ما قدمه كاتبه الصحفى محمد حسنين هيكل، ويمكن اعتباره بمثابة مقدمة كتبها مفكر وفيلسوف كبير متأملًا من خلالها حركة التاريخ الإنسانى، كاشفًا عن رؤيته العميقة لشكل التغيرات التى طرأت على الإنسان منذ فجر التاريخ، وشكلت وجدان الإنسان الذى يعيش اليوم، راصدًا مراحل التطور المختلفة، مجيبًا عن سؤال كيف تبنى الحضارات؟ ولماذا تندثر؟!
فى البداية يعتبر هيكل أن الإنسان هو ابن حضارة واحدة، هى الحضارة الإنسانية بشكل عام، وهو ابن تفاعل كل هذه الحضارات التى وجدت على ظهر الأرض، فالعناصر المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان هى التى أنتجت ما يمكن أن نطلق عليه الحضارة، سواء كانت هذه الحضارات المساهمة فرعونية أو رافدية أو آشورية أو يونانية أو مسيحية أو إسلامية.
ولهذه الحضارة الإنسانية لغة واحدة.. «هى لغة القوة الغالبة فى زمانها، فهذه اللغة الرئيسية نطقت يونانية لحظة- لاتينية لحظة أخرى- عربية بعد ذلك- ثم فرنسية أو إنجليزية فى هذا الزمان وقد تصبح نبرة أخرى غدًا أو بعد غدٍ».
وبالتأكيد هذه الحضارة الواحدة صاحبة اللغة الواحدة مستحيل أن تكون أو يخلق منها ما يطلق عليه صراع الحضارات، وبالتالى يقول الأستاذ إنه لا يؤمن بهذا المصطلح:
«إننى قريب من مدرسة ترجح أنه ليس هناك ما يمكن أن نسميه صراع حضارات.. والسبب أن هناك حضارة إنسانية واحدة صبت فيها شعوب وأمم وأقاليم الدنيا، على طول التاريخ أفضل ما توصلت له من رقى وتقدم».
ثم يضيف متحدثًا عن الديالكتيك الذى خلق الثقافة الإنسانية تلك التى تنبع من تفاعل مختلف الثقافات وانفتاحها على بعضها البعض وتجددها.
ويكمل واصفًا هذا التواصل الإنسانى بين البشر بأنه شراكة تهدف للتقدم نحو التنوير والتغيير وجعل حياة الإنسان أفضل فوق ظهر الأرض:
«وإذا عُدت الآن إلى مقولة صراع الحضارات أو حوارها فربما تكون النقطة الجوهرية أنه يتحتم التفرقة باستمرار بين شراكة الحضارة وبين صراعات القوة، فالقوة ميدان تصويب وضرب نار، والحضارة شراكة ومحيط أنوار».
هذه الشراكة التى تصنعها الحضارة والتى تتشكل من الفنون والمعارف، والتى تخلق التواصل والتقارب بين البشر بعضهم البعض، بكل تأكيد ترفض تفريقهم وتقسيمهم لأسباب مختلفة وواهية مثل اللون أو الجنسية، أو الدين والعرق، أو شمال وجنوب وشرق وغرب، وأنه لا بد من التمسك بهذه الشراكة التى تم خلقها لآخر لحظة.
«الغريب أننا حين قبلنا فكرة صراع الحضارات أو حتى حوار الحضارات بالمنطق الذى قُدم لنا- فإننا سلمنا بالقسمة، أى أننا تنازلنا عن الشراكة من أول لحظة».
ولكن بالرغم من هذا الانشقاق الذى صنعه الإنسان، إلا أن الحضارة تظل محتفظة بسماتها وجوهرها الإنسانى متجاوزة الأزمنة، ولذلك «فإن حقائق الحضارة تمنع الاستيلاء عليها لحساب أى طرف، كما ترفض التنازل عن الحق فيها تحت أى وصف».
وفى الكتاب لا يكتفى الأستاذ بقراءة وتتبع وتأمل تاريخ الحضارة، أو ماضى الإنسانية فقط، بل يتأمل الوضع الراهن ليقدم الإجابة النموذجية متمثلة فى رؤيته الخاصة العميقة، حيث يرى أن حوار المجتمع مع نفسه ومن داخله قادر على حل الأزمات الراهنة ومن ثم الانطلاق لصنع حضارة خالدة «الأولى أن نبدأ حوارًا مع النفس، نعرف فيه بالضبط من نحن؟ وأين نحن؟ وماذا نريد؟!».
وأنه لا بد من «تجنب فخاخ الاستدراج والاستنزاف بسبب ما يفعله آخرون من أصحاب الغرض فى الإقصاء والاستبعاد، هؤلاء الذين تنبهوا بسرعة إلى ما لحق بالعقلية العربية الإسلامية جراء عصور القهر والظلام، فإذا هم يحاولون تثبيت الانكسار وتعميقه فى العقل وفى الإرادة لدى العرب، والمسلمين، والسبيل إلى ذلك.. استثارتهم بين الحين والآخر بما يدفعهم أكثر وأكثر إلى عزلة البحر الميت».
هنا الأستاذ هيكل يرى أنه لتقدم العرب لا بد من عدم النظر إلى القوى الرجعية الموجودة داخل مجتمعاتنا، والتى تتمثل فى بعض الآراء التى قد تدفعنا إلى الخلف لا إلى الأمام، والتى يتبنى أغلبها وجزء كبير منها بعض جماعات الإسلام السياسى، تلك التى أخذت تستنزف مجهود الأوطان العربية، وتستدرجها نحو معارك جانبية تؤخرها عن ركب الحضارة والتقدم، بل ما فعلته هذه الجماعات فيه إساءة صريحة للدين، لأن بعض القوى الخارجية تستخدم هذه الأخطاء والصراعات لتأكيد رؤيتها تجاه الآخر، ولكسب رهانها السياسى، وعملها على تأخر الشعوب، حتى تفرض هيمنتها، فهم وكما قال هيكل تحديدًا بعد حادثة ١١ سبتمبر ٢٠٠١ «تحولت الفجيعة إلى عملية تلاعب مقصود بالصور، وبأسلوب خداع البصر، فإذا العالم يفاجأ بأن صور المسلم عربيًا وغير عربى، قد أزيحت لتحل محلها صورة المتعصب الإرهابى».
هذا بالرغم من أن جوهر الدين يستنكر كل هذه الأفعال، فالدين يدعو إلى الرحمة والتسامح مع الآخر المختلف، ويدعو إلى العمل والاهتمام بالعلم، وعلى الجمال بكل ما تحمل كلمة جمال من معنى ولفظ ودلالة.. والدين يساعد على بناء الحضارة التى تتطلب كل ما سبق ذكره.
«إن وجود الحضارة الإسلامية على هذا النحو سمح بما هو أرحب وأخصب، لأن إطاره عندما اتسع للجميع حقق خاصية مدهشة تحسب له، هى خاصية التعدد مع الوحدة والتنوع مع الانسجام، وتلك ظاهرة فريدة إذا تذكرنا أن ساحة ما نسميه الفن الإسلامى اتسعت ولا تزال تتسع لتعبر عما هو غير إسلامى».