رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سمير غريب وفضاء الإبداع الحر

"لقد اكتشفت أن مصر في الثلاثينيات والأربعينيات كانت أكثر تحررًا فكريًا ونشاطًا ثقافيًا مما هي عليه الآن في الثمانينيات، وقتها لم تكن بها هيئة للطاقة الذرية، ولم تكن تصنع الصاروخ، بل كانت مستعمرة يحكمها التاج البريطاني والمندوب السامي لجلالة الملكة، مع ذلك كانت مصر جزءًا من الحيوية الثقافية العلمية، كان كبار كتاب وفناني العالم يحرصون على زيارتها، وكانت تربط بعضهم علاقات مع كبار كتابنا وفنانينا، كانت مصر تموج بحركات ثقافية حية من اتجاهات مختلفة، كانت تلك الحركات جزءًا من الحيوية الثقافية العالمية، مثلما كانت حركة الفن والحرية في مصر جزءًا من الحركة السريالية العالمية في نهاية عصرها الذهبي، كان بين هذه الجماعات تنافس بناء، فبينما كان المتمردون والمجددون يتجمعون في جماعات تقدمية مثل "الفن والحرية" كان المحافظون والكلاسيكيون من الفنانين التشكيليين يتجمعون في "صالون القاهرة"، وبينما كانت مجلة "أنيفور" تنشر رسائل من بول فاليري إلى جماعة "المحاولين" كان طه حسين ينشر في مجلة "الكاتب المصري" رسائل من أندريه جيد، مثلما كان جورج حنين ينشر رسائل من أندريه بريتون إلى السرياليين المصريين..".. تلك كانت بعض سطور الكاتب والناقد الموسوعي المبدع "سمير غريب" في تقديمه لكتابه الرائع “السريالية في مصر"، وأعتقد أن كاتبنا هنا لا يقصد في المضمون والنهج مجرد سرد ماضوي، ولكن من منطلق مسؤوليته كناقد فني في تنبيه وإعلام أجيالنا القادمة ببدايات الحركة الإبداعية الثقافية الحية، وأننا نعيش في وطن عرف مبدعيه ومارسوا فنون السريالية وغيرها من مدارس الإبداع وتقنياتها وعلى تواصل ونقل خبرات مع رموز تلك المدارس في العالم، بل أن يتصدوا لمناهضي وأعداء تلك الفنون الحديثة بكل إصرار على تجاوز أزمنة التخلف..
وفي مقارنة سلبية لصالح الماضي يذكر "غريب" أنه وفي ظل الوجود الأجنبي كان للأجانب  مشاركة في بناء الكثير من المساهمات في تفعيل الحيوية الثقافية في زمانهم، وفي المقابل وفي مصر الثمانينيات أجانب يشاركون للأسف في التدهور عبر بوابة الانفتاح الاقتصادي "الاستهلاكي" بما يفرضه من أنماط ثقافية واجتماعية ضارة ..
ويرى "غريب" أن السريالية عالميًا ثورة على الكلاسيكية وسجن الواقعية الكئيب، لذا شاركت بدورها في تغيير هذا الواقع، وشكلت سلمًا ضخمًا صعدت عليه الثقافة الأوروبية في تطورها الحالي، مثلما شاركت السريالية المصرية في تطور الفن التشكيلي المصري الحديث، والحركة السياسية والاجتماعية، وإن جابهتها عقبات ضخمة تتناسب مع تراث الثقافة المصرية المحمل بقيود عصر الانحطاط المملوكي والعثماني في التأثير على باقي فروع الثقافة المصرية، مثلما جابهتها عقبات ذاتية ..
وفي مقالي مواصلة لتحرير مجموعة من المقالات لرصد تاريخ وعبقرية عطاء مجموعة عظيمة من رموز النقد الفني في مصر والعالم العربي على صفحات جريدتنا الغراء "الدستور" المعنية بقضايا الإبداع والتنوير إلى حد أرى تصنيفها كجريدة ثقافية تنويرية بديعة.. ولعل تلك المقالات تسهم في الرد الطيب والمقنع على من يتهمون الحركة النقدية بالتراجع أو الاستعلاء، بل من يرون ظلمًا أن انتشار بعض ملامح القبح في الشارع المصري قد يعود إلى تراجع الحالة النقدية!!
وأعود للناقد الفني الكبير سمير غريب أحد رموز العمل الثقافي التنفيذي والرمز التنويري البارز ورئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري الأسبق، والممارس للكتابة النقدية الصحفية، والمؤرخ الرائع لحركات التطور الفني عالميًا ومحليًا عبر أكثر من 18 مؤلقًا مرجعيًا هامًا لدارسي الفنون وأهل الإبداع الفني بشكل عام ..
ويواصل ناقدنا المتميز المناداة بأهمية تحقيق وعى شعبى ونشر ثقافة الحفاظ على العمران، ليس من خلال القوانين الحكومية، لأن القوانين موجودة ولم تطبق، لكن بتغيير ثقافة الشعب ..
وكثيرًا ما أشار "غريب" إلى عبقرية  المهندس المعماري المصري حسن فتحي (1900:1989)، كنموذج للجمال الكلاسيكي، إذ وظف موهبته المعمارية لإبداع عمارة الفقراء واشتهر بتصميمه لقرية القرنة الجديدة في البر الغربي لمدينة الأقصر مستوحيًا طرق البناء الريفية التقليدية المعتمدة على الخامات الطبيعية المنسجمة مع البيئة، منتقلًا إلى رواد العمارة التفكيكية التي اعتبرها  "جمال مضاد" مثل العراقية زها حديد وبرنار تشومي ولوكوربوزييه..
وكان الناقد الكبير سمير غريب قد قال في تصريحات خاصة لـ"بوابة الأهرام" إن العالم عاش مع فن يتطور ببطء منذ الحضارة اليونانية الرومانية، ثم شهد طفرات منذ عصر النهضة حتى بدايات القرن العشرين، حيث بدأت الثورات الفنية حتى وصلت إلى الثورة على الفن نفسه، الفن هنا بجميع أشكاله وتجلياته وعلى رأسه العمارة أم الفنون، عبر هذا التاريخ تغيرت أشكال الجمال ومفاهيمه حتى وصلت إلى ما سميته "الجمال المضاد".. 
ويؤكد "غريب" أهمية التراجم المتخصصة التي تصدر مترجمة بالإنجليزية عن الفن التشكيلي المصري في الخارج والدعاية لمصر أيضا؛ إذ إن الفن التشكيلي المصري غير معروف في العالم غير العربي، منوها "ولا أعرف أن متحفًا كبيرًا اقتنى عملًا لفنان مصري باستثناء جورج صباغ في فرنسا، وهو لبناني الأصل، وأحمد مرسي الذي يقتني متحف الفن الحديث في نيويورك لوحة له.."..
ويؤمن غريب عبر العديد من مؤلفاته أن الإبداع مطلق ومرتبط بالخيال، والخيال لا يمكن تقييده بأى حد من الحدود، لا حدود وطنية أو دينية أو سياسية، فالمحرمات فى الكتابة العادية والسياسية غير واردة في الإبداع الفني، لأن الإبداع الفني إذا بدأته برقابة على نفسك، سواء كان نصًا مكتوبًا أو نصًا مصورًا، سيكون مصير هذا الإبداع الفشل، ويجب أن يتحرر المبدع من كل القيود..