رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللعب مع الكبار.. كيف يلعب ميسي المونديال الأخير؟

ميسي
ميسي

«أتعلمون لا يوجد شىء اسمه صدفة. كان من المفترض أن تقام منافسات البطولة فى الأرجنتين، أحضرها الله هنا، أحضرها هنا كى تكون فى استاد (ماراكانا) لتكون أجمل لنا جميعًا، دعونا نخرج إلى الملعب بثقة وهدوء، ونعود بالكأس إلى بلادنا». كانت هذه الكلمات التى تحدث بها ليونيل ميسى فى خطاب تاريخى لرفاقه قبل موقعة نهائى كوبا أمريكا الأخيرة، كاشفة عن إيمانه الشديد بأن الأقدار ستصالحه، وأجلت له حلم التتويج بلقب مع منتخب بلاده، لكى تكون الفرحة فى المكان الأصعب، والبلاد التى تربطها وبلاده تنافسية هى الأقوى فى تاريخ كرة القدم، حيث معقل البرازيل فى «ماراكانا». 

لم يكن «ميسى» فى أفضل حالة فنية وبدنية حينها، لم تكن الأسماء حوله بقدر النجوم التى جاورته قديمًا، لم تكن التوقعات أكبر من الماضى.

لكن الإيمان كان أقوى من أى وقت مضى، ويومها أدرك «ليو» أن الأمر ليس بشريًا خالصًا، وأن إرادة الرب التى أنقذت مارادونا فى ١٩٨٦، حضرت معه فى البرازيل، وشاءت بأن يكون عرسه وتتويجه فى «ماراكانا»، وهنا لم تعد الشكوك تستحوذ على مكان فى داخله. بنفس القدر من الإيمان يذهب «ليو» إلى الدوحة، طامعًا فى كرم أكبر من السماء، وباحثًا عن ختام مثالى لمسيرة أكثر مثالية فى عالم كرة القدم.

تقدير استثنائى.. وزملاء يرفعون شعار: «نموت من أجل ليو»

بحالة مزاجية هى الأفضل فى سنواته الخمس الأخيرة، وبوضعية بدنية وفنية رائعة، يريد ليونيل ميسى مع «راقصى التانجو» استعادة اللقب الغائب منذ ٣٦ ثلاثين عامًا، وإهداءه إلى بلادهم، وإلى روح دييجو مارادونا الذى غيّبه الموت عن المونديال المقبل.

كانت تهمة التخاذل مع منتخب بلاده أكثر شىء يؤرق «ميسى» ويطارد تألقه مع ناديه برشلونة. كان يفوز مع «البلوجرانا» بكل شىء، ويستحوذ على كل الألقاب الجماعية والفردية، لم يترك شيئًا إلا وفعله، لكنه ظل فى عيون كثيرين متخاذلًا.. فقط لأنه لم يفز بلقب لبلاده. عانى من الاكتئاب الشديد، وهو فى أعظم مراحل عطائه الكروى، وكاد يعتزل اللعب الدولى لولا الضغوط التى مورست لإعادته. لكن فى خواتيم المسيرة تبدل الحال تمامًا، وأصبح «البرغوث» يعطى كل شىء للأرجنتين، وتحاصره الشكوك فى ناديه باريس سان جيرمان.

صحيح أن ليونيل يقدم أداءً رائعًا مع انطلاقة هذا الموسم، لكنه غاب تمامًا فى الموسم الماضى، وكان أثره محدودًا لدرجة كبيرة، وهو ما دعا كثيرين للتساؤل عن السر فى التغير الكبير بين باريس والأرجنتين.

سننحى وضعيته مع باريس جانبًا، ونركز على ما يهمنا فى موضوعنا هنا، وهو حكاية تبدل مزاج «ميسى» أثناء اللعب مع المنتخب، فماذا تغير؟

أصبح «ميسى» أكثر حماسية حينما يتعلق الأمر بألوان «التانجو»، لِمَ شعر به من تقدير استثنائى حوله. 

لاعبون، وجهاز فنى وإدارى، ومنظومة أرجنتينية متكاملة، كل الأطراف اتفقت على أن ميسى يستحق أن تجتمع الأرواح وتسخر الطاقات لأجل إسعاده، وقالوا عنه وفيه ما لم يلقاه طوال مشواره. شعر «ليونيل» من كلمات زملائه ومسئولى كرة القدم فى الأرجنتين بتجدد حيويته، واستعاد شبابه وثورته، بخلاف ما كان يشعر به مع الجيل السابق، الذى دائمًا ما كان معظمه غير مبالين، وأصحاب همم ضعيفة، وهربوا من تحمل المسئولية، بل وألقوها كاملة على عاتقه. مع هذا الجيل وجد «ميسى» إيمليانو مارتينيز، مهاجم المنتخب الأرجنتينى وإنتر ميلان الإيطالى، يصرح بحماسة كبيرة بأنه «مستعد للموت من أجل ميسى وتتويجه بكأس العالم»، بينما قال رودريجو دى باول إنه «سيذهب إلى الحرب إذا طلب منه ليونيل ذلك». كم مشاعر لا تُصدق يحملها لاعبو «التانجو» لقائدهم، ولم تكن هذه الكلمات مجرد تصريحات للاستهلاك والتجميل، بل شعور صادق تستطيع لمسه فى نبرة وصوت كل نجوم الأرجنتين الذين شاهدوا بكاء «ليو» مرارًا وتكرارًا.

معظم هؤلاء الذى يقاتلون حوله، كانوا صغارًا بينما هو يواجه تهم التخاذل، رغم ما يقدمه من عظمة ويخسر فى النهاية بسبب مَن حوله. لذا حين آتتهم الفرصة كانوا مستعدين لها، ولأجل «ميسى» يقاتلون ويلعبون بروح غير عادية.

التخلص من ضغط «عدم التتويج مع المنتخب».. والاعتماد على «جيل تكتيكى غير فردى»

يدخل هذا الجيل من المنتخب الأرجنتينى كواحد من المرشحين للفوز بالمونديال، وليس المرشح الأفضل، لكن لديه ميزات وعوامل أكبر من تلك التى امتلكها «ميسى» وزملاؤه فى السابق.

على رأس تلك العوامل هو تخلص «ميسى» من بعض الضغوط التى كانت تحاصره بسبب عدم تتويجه بأى لقب قارى، فبعد الفوز بـ«كوبا أمريكا» الأخيرة، أصبحت الضغوط عليه أقل، وإذا فاز بكأس العالم يكون قد وصل إلى الكمال فى كرة القدم، وإن خسره فهو لم يعد مطالبًا بالتتويج بلقب قارى كما كان فى السابق، وهذا الأمر يجعله وزملاؤه يلعبون بضغوط أقل من السابق، وهذه ميزة كبيرة جدًا يحتاجها أى فريق.

كما يتميز هذا الجيل فى الأرجنتين بقوة التكتيك، وتفوق «المنظومة» على «الارتجالية» و«الأفراد»، فلم يعد الأرجنتين فريق النجوم اللامعة، ولا ذلك الفريق الذى يعول على الأفراد والمهارات الفردية والحلول الاستثنائية، بل تحول إلى منظومة جماعية تعتمد على فكر خططى محكم، وأسلوب لعب مميز للغاية هجوميًا ودفاعيًا. ومع هذا التميز الخططى، أصبح بين المنتخبات غير المتوقعة من الناحية الخططية، فى ظل قدرته على اللعب بأكثر من أسلوب وأكثر من طريقة.

فى أوقات يلعب «٤/٢/٣/١»، وفى أخرى يعود إلى «٤/٣/٣»، بينما تتحدث تقارير أرجنتينية الآن عن أن المدير الفنى ليونيل سكالونى يدرس استبدال الشكل الخططى تمامًا، والاعتماد على خطة «٣/٤/٣»، وذلك عبر الدفع بـ٣ مدافعين فى الخط الخلفى، هم كريستيان روميرو، وأوتامندى، وليساندرو مارتينيز. هذا التنوع الخططى يجعل الفريق أكثر مرونة وقدرة على مواجهة أى خصم، وعلى تغيير الشكل حسب مجريات المباراة، بما يتناسب مع طبيعة المنافس، إلى جانب استغلال ليونيل ميسى الاستغلال الأمثل.

ففى الآونة الأخيرة ومع تقدم عمره، لم يعد ليونيل ميسى قادرًا على بذل نفس الأدوار البدنية، لكن «سكالونى» وجد الحل فى الأدوار المركبة لمحور الوسط دى باول، لاعب أتلتيكو مدريد.

«دى باول» على الورق يكون لاعبًا من اثنين، إما المحور الأيمن فى طريقة لعب «٤/٣/٣»، أو الارتكاز الأيمن فى طريقة «٤/٢/٣/١».

وفى كلتا الحالتين يلعب نجم الوسط الأرجنتينى دورًا رئيسيًا فى بناء «سكالونى»، وتحرير ليونيل ميسى، فهو يتولى اللعب حيث لا يريد «ميسى»، أو بمعنى آخر التمركز فى المساحة التى لن يذهب إليها نجم برشلونة السابق.

إذا خرج «ليونيل» على الطرف الأيمن كجناح، يلعب «دى باول» فى العمق، وإذا دخل «ميسى» إلى العمق، يميل «دى باول» على الطرف، وحينما يفقد الأرجنتين الكرة، فإن «دى باول» هو مَن يدافع على الطرف الأيمن مكان «ميسى»، وحينما تشاهد أدواره الدفاعية على وجه التحديد، ستفهم جيدًا أنه كان صادقًا حينما قال: «مستعد للقتال من أجل ميسى». ومع الظهير الأيمن «مولينا»، يشكل «دى باول» و«ميسى» جهة يمنى مثالية، وبسبب تبادل الأدوار والمرونة فى الحركة بينهم، يجد الخصوم صعوبات كبيرة، ويجد «ليو» راحة كبيرة لم يجدها فى أى مكان خلال سنواته الأخيرة، ليلعب بحرية كاملة فى التحرك واختيار أماكن طلب الكرة.

كتيبة هجومية فتاكة ودفاع بخطين وإصابة لوسيلسو أزمة كبيرة

رغم كل عوامل التميز هذه، لسوء حظ الأرجنتين، فقد المنتخب أحد أهم أضلاعه الخططية، بعد إصابة المحاور المقابل «لوسيلسو»، الذى يلعب مع «دى باول» الدور الأهم فى التكتيك سالف الذكر.

«لوسيلسو» هو المحور الأيسر الذى يميل كلاعب ارتكاز ثانٍ إلى جانب «باراديس» فى بعض الأوقات، وفى أوقات أخرى تجده فى أقصى الخط الأيسر كجناح.

هذه المرونة الكبيرة التى كان يمنحها «لوسيلسو» مع «دى باول» هى السر الأكبر فى براعة الفريق الأرجنتينى، لذا من المتوقع أن يترك فراغًا كبيرًا، وربما تتطلب عملية تعويضه تبديلًا فى الطريقة.

وفى المقدمة أصبح لدى الأرجنتين أكثر من مهاجم جيد، فى وجود «مارتينيز»، وكذلك الصاعد بقوة الصاروخ مع مانشستر سيتى، جوليان ألفاريز، ويبقى أنخيل دى ماريا أحد الخيارات التى يمكن أن تعود قبل انطلاق البطولة، فى ظل تعرضه للإصابة.

فى بعض الأوقات إذا واجه الأرجنتين خصمًا متكتلًا ويريد المغامرة، يزيد هجومه باستخدام «ألفاريز» جناح أيسر، مع التحول للعمق كمهاجم ثانٍ، ليترك الخط لـ«تاجليافيكو»، الذى يعيش فترة جيدة، وشهدت مسيرته تطورًا كبيرًا عن آخر مونديال شارك فيه.

«مولينا» يمينًا و«تاجليافيكو» يسارًا، يشكلان جبهتين قويتين للغاية، خاصة من الناحية الهجومية، وبالتالى بات بمقدور الأرجنتين الهجوم بكثافة كبيرة فى وجود هذين اللاعبين. فى النهاية سيكون «سكالونى» أمام أكثر من خيار، إما «٤/٣/٣» باستخدام «ميسى» و«دى ماريا» خلف «مارتينيز»، أو «٤/٢/٣/١» باستخدام «دى ماريا» يمينًا، ونيكولاس جونزاليس أو «ألفاريز» يسارًا، وبينهما «ميسى» فى مركز العشرة خلف «مارتينيز»، على أن يلعب بثنائية فى الارتكاز تضم «دى باول» يمينًا و«باراديس» يسارًا. وفى الحالتين لدى الكتيبة الأرجنتينية قوة هجومية كبيرة للغاية، وقدرة على تبادل الأدوار بين جميع لاعبى المقدمة. أما فى الحالة الدفاعية، فيتميز الأرجنتين ببناء خطى دفاع «٤ فوق ٤»، والضغط بثنائى فى المقدمة هم «ميسى» و«مارتينيز»، وهذا الشكل يجعل المساحات بين الخطوط محدودة، ويمنح الفريق صلابة كبيرة فى عملية حرمان الخصم من صناعة الفرص والوصول إلى مرمى الفريق.