رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كمال الجويلى.. ومشروعه النقدى والفكرى الوطنى

معلوم أن الإرث الإنسانى الحضارى الذى ورثناه عبر الحقب الحضارية المختلفة قد فرض وأدى إلى ظهور النقد الفنى نهاية القرن التاسع عشر فى أوروبا، وذلك من أجل عرض وتقديم وتوضيح وتفسير الأساليب الفنية من حيث المعانى والمضامين لخلق حالة فنية غنية تؤدى إلى إضافات فكرية تسهم فى إثراء الحضارة الإنسانية من خلال الفنون الجميلة الرائعة..


وعليه، أرى أن الكتابة النقدية باتت قضية لها بعد أخلاقى ومهنى ومسئولية أخلاقية مرهونة بمدى قدرة الناقد على تملك أبعاد العمل الفنى وآفاق معانيه ودلالته، حتى إن البعض يرى أن فى هذه الحالة يتحول الناقد إلى كاتب «فنان» يتحاور مع الفنان والعمل الفنى بإبداعه فى الفهم والتحليل والتأويل إبداعية العمل الفنى، وهو ما يحقق فى النهاية متابعة إبداعية عبر المتن النقدى ويشكل جزءًا من ذاكرة تلقيه واستيعابه..
 

وتتجلى أهمية النقد فى كونه مساهمًا رائعًا فى دعم حالة الاستنارة عبر الإشارة إلى مواطن الرقى الجمالى والفنى فى الأعمال الإبداعية عامة، والتشكيلية خاصة، علاوة على كونه معينًا على تذوق الفنون التشكيلية باختلاف فروعها، وإرساء قواعد وأسس متينة تسهم فى تطويرها والتعريف بسر الجمال فيها، كما يساعد على اكتشاف الهنات والثغرات التى يمكن أن تعترى المنجز الإبداعى..


وفى هذا السياق يرى الفنان والناقد الرائع الراحل محمود بقشيش أن النقد يشارك فى صنع الفنانين والأعمال الفنية، «فقد يربط الناقد بعض المؤثرات بعمل فنى ما، لا يكون الفنان نفسه قد تأثر بها، وقد يتوقف الفنان فى مرحلة سياسية مرتبكة.. فيسارع الناقد إلى الربط الآلى بين الارتباك العام والتوقف الخاص، وربما كان هذا التوقف عائدًا لسبب فردى بحت لا علاقة له بذلك الاضطراب العام، ولأن معظم فنانينا، إن لم يكن كلهم، لا يمارسون الكتابة الاعترافية عن سيرتهم الذاتية، أو الكتابة الموضوعية عن تجاربهم فى الإبداع، لذلك يتحمل الناقد الذى لا يجد أمامه إلا وثيقة العمل الفنى عبء التفسير الذى يظل ناقصًا على الدوام»..


ولأن تاريخ النقد المصرى والعربى فى مجال الفنون التشكيلية زاخر بأسماء محموعة رائعة من النقاد رأيت مواصلة التنبيه لأدوارهم الإبداعية والمهنية والوطنية والتاريخية عبر تلك السلسلة من المقالات على صفحات جريدتنا الغراء «الدستور» التى أراها جريدة وإصدارا ثقافيا وتنويريا فى المقام الأول..


وفى هذا العدد نقترب حب وتقدير وإعلاء لدور الفنان والناقد الراحل «كمال الجويلى» المبدع الذى درس فن التصوير شابًا بكلية الفنون الجميلة على أيدى العظام الأُول فى فن التصوير فى مصر، والناقد فيما بعد لأعمال زملائه الفنانين التشكيليين المصريين محللًا وشارحًا وناقدًا بعروضه المبسطة والجلية المتمتعة بالشفافية والنقاء وجمال الوصف والبيان.


الناقد الفنى التشكيلى كمال الجويلى دءوب على مشاهدة كل ما كان ينتج فى زمانه على أرض مصر من إبداع تشكيلى، ولعل رصيده فى المكتبة المصرية والعربية جعلت من أعماله موسوعة تاريخية للفن التشكيلى المصرى..


وقد لا يعلم البعض أن «الجويلى» كان خبيرًا متفردًا فى مجال الترميم، ويكفى أنه شارك صديق عمره النحات الكبير أحمد عثمان مؤسس كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية فى ترميم ونقل تمثال رمسيس.


وقد واجه الجويلى عواصف المحن والشدائد بصمت المتسامى فوق آلامه وأحزانه، وبكبرياء طاقة روحية شديدة الخصوصية تجعله يتجاوز هذا العالم بكل منغصاته، ولعل هذه الطاقة الفريدة هى التى مكنت الراحل كمال الجويلى- ضمن ما مكنت- من التصالح مع نفسه فى ظروف شديدة القهر والقسوة، حينما فقد إبنه الوحيد الفنان الشاب هانى الجويلى فى فاجعة مؤلمة أدمت قلوب الوسط الفنى والثقافى المصرى كله..
 

ويذكر الكاتب «السيد رشاد» أن «الجويلى» فى الصف الأول للدفاع عن كرامة الفن والفنان المصرى.. حدث هذا فى مناسبات عديدة.. لعل أشهرها تصديه ورفضه لعملية نقل مجموعة من أهم مقتنيات متحف الفن المصرى الحديث التى اقتنتها الدولة من الفنانين بأسعار تُعد أقل من قيمتها الحقيقية بكثير كى توضع فى المتحف كذاكرة بصرية للأمة كلها.. نقل هذه الثورة الفنية لتزيين أروقة وطرقات وغرف «مستشفى استثمارى كبير»..

 وقد ثار الجويلى وحشد معه مجموعة من الفنانين والمثقفين ضد ما رآه عدم احترام للفنانين ولأعمالهم، فالمسألة ليست تجارة ولا تصرفا شخصيا للوزير أو رئيس القطاع، فأعمال متحف الفن الحديث ذات قيمة فنية عالية ومن قرر وضعها فى «مستشفى» لم يدرك تلك القيمة الفنية والتاريخية والإبداعية لهذه الأعمال.. وهو الموقف الذى أجبر الوزير ومسئوليه على التراجع..

 ولا يبقى سوى الإشارة إلى أن مشروع الراحل  «الجويلى» الفنى والنقدى والفكرى، سيظل واحدًا من المشروعات التى أضاءت، وجه هذه الأمة الإبداعى عبر عطاء تنويرى امتد على مدار أكثر من ثمانية عقود.. لقد قاتل حتى اللحظات الأخيرة من رحيله من أجل كسر العزلة بين الفنان والمجتمع، ودعا إلى عمل المعارض وسط الجماهير البسطاء فى الشارع.. وكذلك شدد على ضرورة وضع منظومة لتجميل الشوارع والميادين والبيوت وكل ما يحيط بنا حتى تعتاد العين رؤية الجمال فترفض القبح، وهى الدعوة التى أطلقها قبل نصف قرن من خلال كتاباته، التى وجدت صدى لدى مسئولى المحليات وغيرهم لما تحولت مدننا ومياديننا إلى ساحات للقبح بكل صوره كما نرى ونعانى الآن..
 

والراحل كمال الجويلى- شأن كثير من العباقرة- فنان متعدد المواهب، متنوع الإبداعات.. فهو الرسام المتميز، والناقد القدير والمثقف الكبير، وخبير الترميم المتفرد، ويكفى أنه شارك صديق عمره النحات الكبير أحمد عثمان مؤسس كلية الفنون الجميلة بالأسكندرية فى ترميم ونقل تمثال رمسيس.. 


يذكر الفنان والناقد محمد كمال فى كتابه « السنابل المضيئة الذى نشر فى عام 2012 : «أظن أن المنعطف الأهم فى حياة كمال الجويلى يبدأ من عام 1952م، عندما التحق بجريدة الأهرام حتى عام 1958م كرسام وناقد فنى، وهو ما جعله يميل صوب مشروعه النقدى منذ ذلك الحين، حتى التحق بجريدة المساء على نفس الدرب من عام 1959م حتى عام 1983م، علاوة على نشر نصوصه النقدية فى أكثر من مطبوعة مصرية وعربية، فيما شكل مشواره النقدى الطويل المحتشد بالمؤتمرات والندوات والأمسيات التى شارك فيها بمنهجه الذى يعتمد على أنماط من المدارس المختلفة، بين السياقية والانطباعية والشكلانية والقصدية، وذلك داخل قالب لغوى رصين وخفيف فى آن واحد..
 

ولد الناقد الفنى الفنان كمال الجويلى فى عام 1921 وتوفى أوائل عام 2016 درس الرسم والتصوير بكلية الفنون الجميلة قسم الدراسات الحرة عام 1942، وأصبح عضوًا باللجنة العليا لمراجعة المادة العلمية الخاصة بالسيرة الذاتية للفنانين التشكيليين المصريين استكمالًا لعمل التوثيق والإدخال على الحاسب الآلى كما عمل رسامًا ومرممًا بقصرى الجوهرة والمانسترلى فى الفترة من 1944- 1952، وعمل رسامًا وناقدًا فنيًا بجريدة الأهرام فى الفترة 1952 - 1958، 1959 - 1983، ثم ناقدًا لعدد من الصحف العربية..


شارك الجويلى فى العديد من المعارض العامة المحلية والمعارض الجماعية الدولية، والفنان الجويلى عضو لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى للثقافة منذ عام 1990، وقد شارك فى التحكيم بعدد من البينالى العربية والدولية، بالإضافة إلى مشاركته فى اللجنة العليا لبنك المعلومات بالمركز القومى للفنون التشكيلية، وكان عضوًا رئيسيًا فى اللجنة العليا لسمبوزيوم أسوان الدولى السادس عشر للنحت لعام 2011..