رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عز الدين نجيب الناقد والمُبدع المُؤسس

" عندي وجوه متعددة بين الرسم والنقد والعمل الثقافي والقصة والعمل السياسي , وهذا مثل لي مشكلات في مسيرتي ، كنت أتمني أن أكون صاحب وجه واحد من تلك الوجوه  لكن المسيرة مضت خلال ٦٠ عامًا مارست فيها الفن وقاومت واليوم ترون ٢٣٠ لوحة تمثل الجانب الأكبر من الرحلة ولا تغطي هذه اللوحات كل المسيرة لكنها تشير الي مراحلها الأساسية  ، والإبداع عندي  لا يقاس بالكم وانما  القيمة .. وهذه الندوة واللقاء معكم مثل لي امتحانًا  لقياس هذه القيمة ، وأتمنى انها تكون لصالحي لا عليّ فلا يوجد كبير علي الفن ، ومسيرة أي فنان قابلة للنقد والتحليل وحتي للإزاحة ، وللزمان رأي مهم في تقييم العمل الفني حيث انه بعد سنوات يختلف الحكم  علي العمل عما كان  عليه الحكم في وقت إنتاج الشباب لهذه الأعمال وسنترك الحكم على قيمة أعمالي للزمن .. " ..
كانت تلك جوانب من أبعاد وقفة ومواجهة مع الذات المبدعة للفنان التشكيلي والناقد وصاحب القبعات الوطنية والإنسانية الإبداعية العديدة " عز الدين نجيب " التي عاش بها ولها ، وأراد أن يفصح عن بعض تجلياتها في عيد ميلاده ال 60 منذ أكثر من 20 سنة ..
وفي هذه السلسلة من المقالات التي نتناول فيها أدوار وجهود رموز النقد الفني في مجال الفنون التشكيلية ، والاقتراب من القضايا الثقافية والتنويرية التي ناضلوا من أجل إلقاء الضوء عليها ودعم رسائلها ، كان لابد الاشتباك الإيجابي المنصف مع المسيرة الحافلة لشيخ النقاد والفنانين " عز الدين نجيب " الذي لقب بـ " المبدع المؤسس " لجهوده ونضاله العبقري في دنيا الإبداع الفني كفنان رائع وناقد صاحب رؤية ومفجر للقضايا الوطنية والإبداعية التي ارتبطت باسمه ..
بعد التحاقة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة التى تخرج فيها عام 1962 ، التحق بمرسم الأقصر للدراسات التكميلية ، ليكمل دراساته العليا في فن " الرسم الملون " وفي العام 1966 اختار العمل بهيئة قصور الثقافة حيث كان أبرز من شاركوا في تأسيس صرح الثقافة الجماهيرية في كفر الشيخ والمنصورة وبورسعيد والاسكندرية والعديد من المواقع التى أسسها وعمل بها بجهد ورؤية وطنية وإبداعية ، والتأكيد على ضرورة دعم الجهود الفاعلة في مجال إرساء مفهوم ثقافة الجماهير ، وأكد دور المثقف المؤمن بقضايا وطنه وأمته حتى أصبح لقبه المبدع المؤسس ، فبالإضافة الى تأسيسة العديد من قصور الثقافة فقد أسس أيضًا مركز الجرافيك بوكاله الغوري والمراقبة العامة لجرافيك وصب البرونز ومجمع الفنون بمدينة 15 مايو والإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية ، كما أسس ورأس جمعية أصاله لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة ، وقدم للحركة التشكيلية عشرات المعارض الخاصة التى جابت جميع انحاء مصر كان معظمها يدور حول همه الأول الوطن والانسان ، كما شارك ممثلًا لمصر في العديد من المعارض الدولية في معظم قارات العالم ، وله مقتنيات في العديد من دول آسيا وأفريقيا وأوروبا ، وتعد أعماله ذاكرة وطنية مصرية بامتياز ، حيث تفاعل مع الأحداث الكبرى مثل بناء السد العالي ، وتوثيق تراث النوبة ..
وعن جهوده الفكرية والنقدية يذكر الكاتب " سيد رشاد " منها " على صعيد النقد التشكيلى قدم للمشهد التشكيلى المصري والعربي العديد من الإصدارات الهامة مثل : فجر التصوير المصري الحديث ، والتوجة الاجتماعي للفنان المصري ، وستائر الضوء ، وأنشودة الحجر وفنانون وشهداء والإبداع والثورة ومحمود بقشيش فنان وعصر وفنون الشعب ، إضافة الى موسوعتي الفنون التشكيلية والانامل الذهبية ، كما ترأس تحرير موسوعة الحرف التقليدية في مصر وصدرت منها 7 أجزاء ، وانتداب استاذًا لتاريخ الفن والتذوق الفني بكليات الفنون الجميلة والتربية النوعية ، واختير عضوًا بلجنة الفنون الجميلة بالمجلس الأعلى للثقافة منذ العام 1994 ، كما انتخب رئيسًا لمجلس إدارة أتيلية القاهرة ، ورئيسًا للجمعية الأهلية للفنون الجميلة ، وشارك في العديد من الملتقيات الفنية والثقافية قوميًا ودوليًا ، كما اشترك وترأس لجان التحكيم لعديد من البيناليات الإقليمية والدولية ، وربما لا يعرف البعض أن عز الدين نجيب قاص وروائى متميز ، حيث صدرت له مجموعات                   " عيش وملح " و" بيت العز " و" المثلث الفيروزي " ومن أدب السجون صدر له " مواسم السجن والأزهار" و" رسوم الزنزانة " وقد حصد عشرات الجوائز في الفن والنقد الفني والإبداع القصصى من مصر والخارج ، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الفنون لتتوج مسيرة هذا الفنان ، الناقد الأديب المحرك الثقافى عز الدين نجيب ، الذى يذكرك دائمًا اسمه بـ " المعارك " .. معارك الحق والخير والجمال من أجل مبدأ ، وقيمة ، وحلم وطن .. 
ولعل من أجمل ما سطره عز الدين نجيب في وصف واقع عاشه في التسعينات :
تجتاح عالمنا هوج العواصف .. تختل الثوابت .. تتساقط الرايات .. فى كل يوم تنهار الحقيقة .. يولد الزيف فماذا بوسع الفنان أن يفعل 
المتاهة والملاذ
كم من السنين رسمت الحصون والأطلال
  وكم من السنين رسمت الصخور والأمواج
اتسع دبيب الحياة في الجماد
ودبيب الموت في الحياة
استنهض الاطلال كي تصرخ
واستفز الأحجار كي تنطق
اليوم وسط تيه بلا خلاص
ودروب بلا يقين
وسط اغتيال الحلم البراءة
وارتداد الأسئلة بأسئلة مستحيلة
ما عادت الحصون والقلاع ملاذًا
من الحراب أو المتاهة
ومعلوم أن عز الدين نجيب قد  أنشأ عام 1994 جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة وللعلم فقد سبق وأن شارك عز الدين فى إنشاء العديد من الجمعيات الهامة منها جماعة الطليعة 1969 وجماعة كتاب الغد 1970 والجمعية المصرية لنقاد الفن التشكيلي (1988) والجمعية المصرية لأصدقاء المتاحف ..
- أنشأ أصالة عقب تعينه مديرًا عامًا لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية بوكالة الغوري إحدى إدارات المركز القومي للفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية .. كان ذلك عام 1992.. ووجد أنه من الضروري دعم مراكز الحرف بجمعية أهلية لرعاية العاملين في هذه الحرف من ناحية وتشجيعهم وتنمية الإنتاج الحرفي ونشره وتسويقه وغير ذلك من المهام التى حققها فعلًا خلال الثلاث سنوات الماضية ويوضح هذه التجربة وأهميتها قائلا : " جاءت أصالة - انعكاسًا لصحوة جديدة دبت في جهاز منزو في الظل بوزارة الثقافة بلا إهتمام لعشرات السنين وهو المعني بالفنون والحرف التقليدية بوكالة الغوري والذي يطل على صحنها التاريخي عشرات الفنانين عبر ثقوب مشربياتهم دون محاولة للتفاعل مع ما يدور في هذا المكان .. وكان ميلادها من ناحية أخرى .. تعبيرًا عن احتياج حقيقي في واقع الحركة الفنية إلى مرفأ للتوازن بعد أن مضى بها قارب الإغتراب بعيدًا عن شواطئ الاصالة والمجتمع إلى خضم بحر عاصف بلا شطآن .. هكذا جاءت أصالة - لتبشر ببعث جديد لهذا التراث فى قلب الحركة الفنية المتفرنجة .. ليس باستنساخه أو التغني به .. بل بإعادة الاعتبار إليه ..
- ظلت إرهاصات الأصالة تنمو وتتبلور في فكر ووجدان عز الدين نجيب حتى توهجت كرسالة حياتية في أوج نضجه الإبداعي .. فحققها بقوة وبدعم من ثقافته وروحه القيادية ليحقق من خلالها أهم منجزات الحركة التشكيلية المصرية بمزجها مع العطاء الحرفي التقليدي وذلك من خلال النصف الثاني من نهاية تسعينات هذا القرن ، وقد غزتنا تيارات نظام عالمي جديد هدفه طمس هويتنا وإبتلاع تراثنا .. فتصدى لهذه التيارات العاتية التى استسلم لها الكثيرون ذلك الفنان المناضل دائما عز الدين نجيب الذى تغنى بعطائه د. محمد حافظ دياب فكتب يقول : " ها أنت على مدار الليالي والأعوام .. ملأت عيونك بأحزان القلب المصري .. وحضنت في رئتيك البشر الطيبين .. وسوحت البراري والمدائن .. وسبحت في التيار وضده ، بينما رؤوس كثيرة من حولك قد ثقلت موازينها وتغاوتها الطقوس المريبة .. ولكنك مازلت تملأ عينيك وتحتضن رئتيك وتسبح وتستأنف المسيرة .. مازلت تعطى القصة والرسم والحياة حرقة أسئلتك وتغترف إبداعاتها ..
ولعل أهم مايمكن أن نختتم المقال به ما سطرة " عز الدين نجيب " في وصفه لمسيرته الإبداعية والفكرية النضالية .. كتب " إذا كان الزمن قد أخذ مني الكثير فقد  أعطاني الاكثر , وأهم ما أعطاني في هذه المسيرة هي القدرة على المقاومة ، ففي كل وجه من وجوه نشاطي الفني والسياسي كانت هناك  سدود وعثرات ونجاحات  وثمن دفعته  وتحقيق وعقاب وتدمير لمرسمي وتهميش ونفي من الوسط الثقافي لسنوات طويلة لكني تعلمت من المسيرة أنه لن ينقصني إلا نفسي ، ومقاومتي لم تكن للرفض والتدمير بل كانت للوقوف ضد السائد والمألوف والتحليق خارج السرب ولذلك  كانت حصني ضد اليأس وفضلت ان  أمشي علي الجمر وأمسك الشوك ، و كان لدي يقين من سن مبكرة أنه سيأتي يوم وأرى زهوري الصغيرة تكبر و السيقان الرفيعة تصبح أشجارًا وأرجو ان يكون هذا الحلم قد تحقق ليس بالنسبة لي كشخص او كفنان ولكن كمشروع آمنت به طوال عمري .. ان المثقف كلمة وثورة وان الموهوب يجب أن يكون في الطليعة ليس في المؤخرة كما يبدو الواقع الآن في حياتنا السياسية والثقافية ..