الكائن المديوكر فى كتاب «على عينك يا تاجر»
عماد فؤاد أحد أبرز شعراء جيل التسعينيات فى مصر، يعيش فى بلجيكا منذ سنوات طويلة، ولكنه حاضر ومشتبك بقصائده وأعماله السردية مع الثقافة العربية، من أبرز أعماله: تقاعد زير نساء عجوز، وعشر طرق للتنكيل بجثة وتلك لغة الفرائس المحظوظة وأشباح جرحتها الإضاءة، بالإضافة إلى عمله الروائى الحالة صفر.
وعمل على نشر «أنطولوجيا النص الشعرى المصرى الجديد» وهى أنطولوجيا شعرية عبارة عن مختارات لـ٥٣ شاعرًا يمثلون ثلاثة أجيال فى النص الشعرى المصرى الجديد بمقدمة وافية شرح فيها ملابسات ولادة هذا المشروع الطموح وخلفيات اختياراته، وهو عمل محترم وأمين، أظهر قوة النص المصرى الجديد وتنوعه، حين وصلنى كتابه الجديد «على عينك يا تاجر» والصادر مؤخرًا عن دار تدعى «ميتافورا»، استغربت العنوان فى البداية، وظننت أن عماد المحب قرر أن يدخل معارك لا تليق بشاعر، الكتاب عبارة عن مقالات، بعضها تناول «وهم العالمية»، وطريقة اختيار الشعراء العرب فى المهرجانات، وبعض المشاحنات هنا وهناك، وكيف تتم ترجمة الأعمال، وهى موضوعات يعرف الجميع جزءًا منها، ولا تعنى غير المشغولين بالعالمية، والذين يبحثون عن «كفيل» كونى، وما إن بدأت فى القراءة وجدت شيئًا آخر لا يشير العنوان إليه، فالكتاب يجمع بين سيرة كاتبه وخبراته المتنوعة مع الكتابة، ومع الجاليات العربية فى الغرب، واستعادة مشاهد قديمة، واستعراض قراءات جميلة جدًا، تجيب فى معظمها عن أسئلة تشغل المهمومين بمستقبل الكتابة، والثقافة بشكل عام، فهو مثلًا يستدعى الهجوم الذى تعرض له الكاتب الإيطالى الشهير أومبرتو إيكو «١٩٣٢-٢٠١٦»، لأنه قال «إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك صارت تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون فقط فى البارات، دون أن يتسببوا بأى ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا، أما الآن فلهم الحق فى الكلام، مثلهم مثل من يحملون جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء»، وناقش عماد من هنا الأدب فى عصر السوشيال ميديا، وانحسار مستويات القراءة الجادة، وسطوة مجتمع الفرجة، وظهور أدب المدونات، الذى ارتبط العديد من تجاربه بأسماء أشخاص يصفون أنفسهم باعتبارهم «مدونين» وليسوا «كتابًا»، وكيف حولت السوشيال ميديا كل شىء إلى سلعة، وكيف فرغت كل قيمة إنسانية من معناها، وظهور نظريات جديدة تعلن موت المؤلف، ثم موت الناقد، وأخيرًا موت الأدب فى عالم تحكمه الصورة وسرعة نقل المعلومات، ويستشهد عماد بما قاله الأمريكى آلفين كرنان صاحب كتاب موت الأدب، «المؤلف الذى كان يقال عنه إن خياله المبدع هو مصدر الأدب، قد تم الإعلان عن موته، وأنه أصبح مجرد جامع لمتفرقات مختلفة من اللغة والثقافة، ليضعها فى كتابات لم تعد تسمى أعمالًا، بل مجرد كولاج ثقافى»، وهذا الكلام رغم صدوره فى كتاب صدر قبل أكثر من ثلاثين عامًا، فهو يشير إلى مجتمع الإلهاء الذى أنتجته السوشيال ميديا فى واقعنا الراهن، والترويج لكتابات تتسم بالخفة التى يفرضها الوسيط المروج لها، ويوجد فى كتاب عماد فؤاد فصل عن الكائن «المديوكر»، الذى ينتمى إلى أصحاب الأداء المتوسط أو العادى أو الضحل، ورغم ذلك تجده متواجدًا بكثافة فى المشهد، أى مشهد، إعلاميًا كان أو فنيًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا، هذا الكائن قادر على تقديم المتوقع منه دون زيادة أو نقصان، وهو ينتمى إلى الفئة التى قبلت بأن يتم تعليبها وتسليعها وفق تواريخ صلاحية محددة، وهى التى بنت حضورها بالإصرار على طرق الأبواب وطلب ما لا تستحقه، وبسبب هذا الإصرار على الطلب والسعى، حصلوا على تواجدهم فى الصورة، فيما انعزل الأحق منهم، والكائن المديوكر كما يقول الفنان عادل السيوى «نجح فى حقن البلادة فى تفاصيل الحياة كلها، وعلى جر العالم إلى كوارث كونية»، فى كتابه «نظام التفاهة» يقدم الفيلسوف الكندى آلان دونو نصائح لمن يريد الانضمام إلى فئة المديوكر «لا تكن فخورًا أو روحانيًا ولا حتى مرتاحًا، لأن ذلك يظهرك بمظهر المغرور، خفف من شغفك لأنه مخيف، وقبل كل شىء لا تقدم لنا (فكرة جيدة) من فضلك، هذه النظرة الثاقبة فى عينيك مقلقة»، ويتساءل دونو قبل أن يجيب بنفسه «ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرف على شخص تافه آخر، معًا، يدعم التافهون بعضهم البعض، فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار»، نجح عماد فؤاد فى كتابه «على عينك يا تاجر» فى رسم جدارية حزينة عن حال الثقافة والبشرية، وبذل جهدًا كبيرًا لدعم تصوراته، ومن الصعب الإحاطة بكل ما جاء فى الكتاب، الذى استمتعت كثيرًا بقراءته.