رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ظلال وألوان " بيكار " الناقد المبدع النبيل

أكتب إليك من تحت أكوام الورق ..
ورق .. ورق .. ورق .. ورق .. !!
أكتب على الورق .. ارسم على الورق .. أجلس على الورق .. أمشي على الورق .. آكل الورق .. أشرب الورق .. استنشق الورق ..
أطوف العالم في سفن من ورق .. أجفف العرق بالورق .. أتسلق جبال المعرفة بحبال من ورق ..
أشتري غذائي وكسائي وراحتي ، بل وعذابي بعملة من ورق ..
أصبحت مثل حشرة (العثة) التي لا تعيش إلا في الورق وبالورق ..
وترتفع تلال الورق من حولي لتصبح السكن والكفن والفراش واللحد .. وسجنًا شاهق الجدران والقضبان والقلق ..
وأكاد أختنق .. أطمع في طوق نجاة ينجيني من الغرق ..
كانت تلك الصورة الشعرية البديعة التي قدم بها الفنان المبدع الرائد العظيم " حسين بيكار" والذي تحين ذكرى رحيله عن عالمنا في مثل هذه الأيام ( 15 نوفمبر 2002 ) ، وقد جاءت تلك الصورة الشعرية في تقديمه لأحد إصداراته  تحت عنوان ( لكل فنان قصة ) من مطبوعات " كتابي " في أول إصداراتها الجديدة عام 1984 ..
وأنا أتابع تخصيص مقالي الأسبوعي " بشائيات " على صفحات جريدتنا الغراء لتقديم سلسلة مقالات  دورية عن إسهامات نقاد الفن التشكيلي العظام الإبداعية ، يسرني تخصيص العدد الحالي عن دور وإسهامات الفنان             " حسين بيكار " النقدية الرائعة ، أرى أن أبرزها كان الباب الأسبوعي " ألوان وظلال "  بجريدة الأخبار الغراء ..   
يعرض فيه إبداعات الفنانين في المعارض التى كان يتسابق الفنانون في دعوته إليها ليفيض عليهم من آراءه النقدية الإبداعية الإيجابية البناءة. .
ولعل من أجمل الوقفات النقدية للفنان والناقد بيكار في تحليله لبداية مرحلة من مراحل إبداعات الفنان عبد الوهاب مرسي .. كتب " ويضفي الفنان عبد الوهاب مرسي في تجربته الجديدة بعدا جديدا سواء في السطح أو في الملمس فذاكرته ما زالت تعي أن التصوير الجداري القديم لم يكن تصويرا صرفا ، ولا النحت البارز كان كذلك .. فقد كان التصوير الجداري عادة يصاحب النحت البارز ويذوب فيه بحيث نستطيع أن نقول أنه نحت ملون أو تصوير بارز . ومن هذا المنطلق يبدأ عبد الوهاب مرسي مرحلة جديدة تتصل بالتراث مستعينا بالعجائن الرملية الخشنة في إضفاء شئ من البروز يتناغم فوق سطح اللوحة صعودا وهبوطا ، وفق تصميم يلتزم بالنهجة ( الوهابية ) الذي عرف بها اسلوبه ، وبهذا يدخل عنصر الرمل الحقيقي كمنافس جديد للفرشاه أو ليتحالف معها فيما يمكن أن نسميه ( النحتصوير ) ليكشب أعماله المزيد من الصلابة والوجود والخشونة التي تقتحم مشاعر المشاهد..."..
لقد عاش " بيكار " بيننا ما يقارب القرن من الزمان وهو لا يكف يومًا عن بث رسائل الرضا والبهجة والحب ، يرطب النفوس المتعبة و يبلسم الجراح .. كانت لوحات معارضه ، ورسومه الصحفية البديعة وأشعاره الرومانسية بجريدة " الأخبار " عبر مساحته الأسبوعية " ألوان وظلال " دعوات تسامح و بطاقات بأمل يتجدد للعطاء من جانب مبدع مرهف الحس قرر أن تتحدى شموس فنونه ضراوة دعاوى نبذ الأخر و كراهية الخير والأخيار والجمال والإبداع .. بالريشة والقلم كان فناننا الراحل يؤكد برسائل تتجدد على معاني الوطنية والمواطنة ونبذ مظاهر القبح في حياتنا .. في واحدة من تلك الرسائل التي كان يُزيل بها " ألوان وظلال "

 كتب :حلمت خير إنى ماشى في كل حارة ودرب
وأفوت على كل بيت وأرسم على بابه قلب
وأدعي من صميم قلبي وأطلب وأقول يا رب
عمر بيوت الناس بالأمل وأملأ قلوبهم حب
في تعريف " بيكار " الفنان التشكيلي والناقد الرائع لفن " البورتريه " قال "  إن فن البورتريه الذي تميز به يُعد تلخيصًا للحياة على مسطح ، ويؤكد ( إذا لم أحب ملامح من سأرسمه فلن تطاوعني فرشاتي ) فهو يقترب من الشخصية ويغوص فيها بالتعامل والحديث ليقتنص اللحظة المناسبة ويعبر عنها باللون والخط ، وقد تعلم من أستاذه " فريدمان كروزيل " أستاذ النحت في كلية الفنون الجميلة ، عندما كان طالباً فيها – أن الفنان أمام البورتريه يجب أن يشعر بأنه يخاطبه ولابد أن تكون الجلسة بينهما حوارية وبها نوع من الترابط العقلي والوجداني ، فهو يحول العمل الفني من لحظة زمنية إلى لحظة سرمدية ، ولو استطاع الفنان أن يقتنص هذه اللحظة فقد وصل إلى صميم فن البوتريه ، كان بيكار يركز على مواجهة الشخصية التي يرسمها ، لأنه اعتبر العين هي لغة التحاور وهي اللقاء المباشر بين الفنان ومن يواجهه ، رسم شخصياته في وضع ساكن لكنه حي فكان لديه القدرة على أن يصطاد ويرسم الحركة الباطنية وليست الظاهرية للموديل ليؤكد أن ملامحه الداخلية هي ما يعطي العمل الفني قيمته ، ومنذ تخرج بيكار في الثلاثينات رسم نفسه في العديد من الصور سجل فيها جميع مراحل عمره حتى أيامه الأخيرة ..
و عليه ، استحق فناننا التكريم والحصول على أرفع الأوسمة في عهد رؤساء مصر الثلاث عبد الناصر والسادات ومبارك .. وعن واحدة من تلك المناسبات كتب " روي " الكاتب الصحفي " سعيد سنبل " حول علاقته بالفنان  " من مواقف الفنان بيكار التي انفرد بها ، حدث أن كلفه أستاذنا الراحل علي أمين ـ في الخمسينيات ـ بالقيام بأعمال إضافية إلي جانب عمله الأساسي في الدار ، وعندما انتهي بيكار من تنفيذ ما كُلّف به، أصدر الأستاذ علي أمين قراراً بصرف مكافأة للفنان بيكار نظير هذا العمل الإضافي ، لكن بيكار رفض المكافأة وبرر رفضه لعلي أمين قائلاً  :قد راجعت عقد عملي مع دار أخباراليوم فاكتشفت أن المرتب الذي أتقاضاه يشمل عملي الأساسي وأية أعمال إضافية أكلف بها واختتم سعيد سنبل مقاله بالسطور التالية :  وضرب علي أمين كفاً بكف ، فلم يصدق ما سمعه ، وظل علي أمين يروي هذه الواقعة ويرددها كلما جاءت سيرة بيكار ليدلل بها علي مدي نقاء وأمانة وزهد وشفافية هذا الإنسان " .. ولم يتغير بيكار في الخمسينيات عنه في التسعينيات ، لقد شرّفني بزيارته في مكتبي ـ منذ ثلاث سنوات ـ ليقول لي  :إنني أكتب مقالاً أسبوعياً في الصفحة الأخيرة في " الأخبار" مزوداً بلوحة توضيحية لموضوع المقال ، لقد التزمت بعملي هذا طوال العقود العديدة الماضية وللأسف شعرت الآن بأن حالتي الصحية لا تسمح لي بهذا الالتزام ، ورأيت أن أكتفي برسم لوحة أسبوعياً في نفس المكان وبدون مقال ، وحاولت إقناع بيكار بالاستمرار في كتابة مقاله المميز ، لكنه صمم علي الاعتذار علي عدم كتابته لظروفه الصحية ، وهذا حقه طبعاً ، وكم دهشت عندما استأنف حديثه قائلاً : إنني أتقاضي مرتبي مقابل الرسم وكتابة المقال الأسبوعي ، وبما أنني سأتوقف عن الكتابة فقررت الاكتفاء بتقاضي نصف المرتب فقط " ..
وبمناسبة احتفالنا هذه الأيام بذكرى انتصارات الشعب المصري في حرب أكتوبر ، لا يمكن نسيان لوحته البديعة : لوحة " فرحة الانتصار " ــ كما أطلق عليها مبدعها حسين بيكار ــ وهي من اللوحات الشهيرة للفنان التي أبرزت وعكست الكثير من الملامح الشخصية للفنان ، حيث أحد مفاتيح نجاحه الفني طابعه الإنساني النبيل الرقيق ، وهو ما يمثل السبب الأبرز في سحر وروعة فن وأداء رسم " البورتريه " بشكل عام لفناننا الكبير ، وبشكل خاص في لوحة " فرحة الانتصار " ، فلم يكن " بيكار " في حاجة لرسم ميدان المعركة وفق تراكيب أو انتماء لمدرسة فنية ما ، و لا يستدعي الأمر بيان رفع رايات النصر و الفخار من قبل شخوض اللوحة الأبطال ، فقد أودع مردودها في عيون ونظرة ومشاعر فتاة اللوحة ، و بحسه الإنساني القادر على سبر أغوار الشخوص وفضح مفاتيحها الإنسانية من خلال دلالات الملامح وحديث اللون وانثناءات الخطوط وحوار مساحات الظل والنور للتعبير عن نشوة الفرحة و زهوة الانتصار لتصل الرسالة إلى عين وعقل المتلقي بأروع ما تكون ..
وقد أشار تقرير منح حسين بيكار جائزة الدولة التقديرية عام 1979 لا إلى تفوقه في عدة فنون فحسب بل وإلى دوره المؤثر فى النقد الفنى والتوعية من خلال مقالاته الأسبوعية فى الأخبار . .
- والطريف فى الأمر أن حسين بيكار عندما لم يجد ناقدا يبادر إلى الكتابة عن معرضه الذى أقامه في المركز المصري للتعاون الثقافي الدولي بالزمالك في مارس 1974 كتب ينقد نفسه ، ولنقف عند معرض حسين بيكار هذا ، وأنك لتدهش عندما يخبرك الفنان الكبير بأن معرضه هذا هو أول معرض متفرد لأعماله فقد كان يعتبر على الدوام أن المعرض مسئولية كبيرة إزاء الجمهور ، وحسين بيكار يأتي في طليعة جيل كان شاقًا عليه ، وقد تلقى التعاليم الأكاديمية الصارمة ، أن يحقق تفرده ، على أن بيكار استطاع أن يشق طريقه إلى تأكيد شخصيته ، ويقدم منذ عام 1945 أعمالًا وطيدة التكوين رهيفة الألوان ، وتعتبر الأعمال التى برز بها بيكار حقًا تلك المناظر التى أبدعها في الخمسينات عن " الحصاد " و" جنى المحاصيل " تلك المناظر الريفية التي توصل فيها إلى قالب خص به تماما جمع بين التبسيط والزخرفة ، بين الغنائية والرصانة ..
كان من أحد الرواد الأوائل في فن رسوم الأطفال إلى جانب دوره في مجال النقد الصحفي في الفنون الجميلة وتشجيعه للمواهب الجديدة بكل تواضع , فكان له أثر كبير في نشر المفاهيم السامية الراقية بين جمهور المثقفين والبسطاء من أولاد بلدنا الحبيبة . .
فقد كلفه وزير الثقافة في زمن مبدعنا الكبير " الدكتور ثروت عكاشة " ، بعمل توثيق لهذه المعابد وللحياة في النوبة واستغل بيكار فنه الراقي وخطوطه الرشيقة لينقل لنا الحضارة الفرعونية ، فعلى مدار ثلاث سنوات وثق لنا حوالى 80 لوحة وآلاف الإسكتشات سجلت معبد أبى سمبل أثناء إنقاذه وتفوق في رسومه بدرجة كبيرة وقد استلهم فيلما تسجيليا كنديا باسم " العجيبة الثامنة " الذي حكى قصة بناء هذا الأثر الفريد معبد أبو سمبل في النوبة أيام الملك رمسيس الثاني من خلال ما خطته أنامل بيكار الشديدة الحساسية للألوان والظلال بكل جد لراهب الفن الجميل ..
ولد بيكار بالإسكندرية ، وكان للبحر دور كبير في تشكيل هويته الفنية كرسام وموسيقي وشاعر ، ودرس الفنون بقلعة الفنون بالقاهرة حيث كلية الفنون الجميلة وعمل بعد تخرجه بها ، ولكن تغلب عليه الحس الصحفي فاختار الاستمرار بالعمل بصحيفة أخبار اليوم ليتحفنا كل يوم جمعة بزجل رقيق عن مصر معشوقته الأولى وبجوارها رسمًا برقة الزجل ..