رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فاطمة على.. والنقد الإبداعى

"فى الواقع، ليست لدى متاحفنا مستنسخات طباعية على (كانفس) أو حتى على ورق، ولا يوجد أى منفذ للبيع داخل المتاحف، وحتى المتحف المصرى للفن الحديث، فقد تعرض منذ افتتاحه عام 1991 للإغلاق أربع مرات، وتم افتتاحه خمس مرات، حتى أنه لا يكاد يتيح فرصة للزوار للاستمتاع بمحتوياته.. ما بين غلق جزئي وكلي، تارة لإصلاح دورات المياه فيه، وتارة لتغيير لمبات الإضاءة، وثالثة لسرقة خمس من لوحاته، ثم إعادتها فورًا، ثم إغلاقه رغم ذلك، عاد الغلق رغم هذا، خلال كل تلك السنوات لم أر نافذة لبيع مستنسخات الأعمال الفنية إلا مرة وحيدة، فى عام 2004، أى منذ 18 عامًا، رأيت بجوار السلم بين الطابقين الأول والثانى منضدة طولية، تعلوها مستنسخات ورقية صغيرة الحجم على هيئة هدايا يمكن لزوار المتحف ابتياعها...".
كانت تلك بعض سطور من مقال نقدي حول قضية فنية أثارتها وعرضت لها بمهنية نقدية بحثية الناقدة الفنية المتميزة "فاطمة علي" بحس وطني وفني رائع، وتعد "فاطمة" من أهم الأسماء في عالم نقد الفن التشكيلي في الفترة الأخيرة، والتى نطالع مقالاتها النقدية بصفحة تحررها بجريدة "القاهرة" التي تصدرها وزارة الثقافة، والتي ننتظرها بشغف كل ثلاثاء، وأيضًا مقالاتها ودراساتها النقدية وكتبها التي تصدر من مؤسسة الأخبار، ودائمًا ما كنت أكرر "يا بخت الفنان أو الفنانة الذي تتناول (فاطمة علي) أعماله بالنقد والتحليل بإبداع نستشعر فيه أنها تكاد تمسك بجمال اللحظة الإبداعية عند خلق الفنان العمل الفني، حتى أتصور أنهم يرددون مع محبي (فاطمة) في المسلسل الشهير: مين ميحبش فاطمة؟".
وأعود لقضية أهمية توافر المستنسخات في المتاحف، وأذكر أنه منذ فترة هاتفني صديق عربي وهو في المطار عائدًا إلى وطنه متضايقًا وطلب مني الكتابة في أمر عدم وجود مستنسخات صغيرة لمنحوتات المتحف المصري، وأنه عندما عاتب المسئولين قدموا له بعضها ليحملها في يديه دون حقيبة عليها تعريف باسم المتحف، وأضاف لقد أفسدوا علىّ سعادتي بعظمة ما رأيت.. أتمنى أن يكونو قد تداركوا ذلك الخطأ الفادح.
وأتمنى هنا أن أتناول في عمودي الأسبوعي "بشائيات" بجريدتنا الرائعة "الدستور" الإشارة إلى إسهامات نقادنا الكبار، والإشارة إلى بعض ما كتبوا عبر مقالاتهم النقدية تحية لهم وللفنانين ومتلقي إبداعاتهم الفنية والنقدية.. ولتكن البداية مع الناقدة التشكيلية "فاطمة علي"  ومختارات من مقالاتها عبر مسيرة مميزة امتدت أكثر من ربع قرن من الزمان.
•  كتبت حول إبداعات الفنان التشكيلي الأكاديمي "مصطفى عبدالمعطي": "أرى أن منحوتات د. مصطفى عبدالمعطي كطقطقة خرجت من اللوحات، كعملية تدوير ما بين اللوحة والتمثال فى توسيع لتجربة المشاهد.. ولإدراك أهمية شعور التمثيل للقيم المكانية.. للوحدة المكانية وللأفكار المكانية ومدى تأثيرها على العمل المجسم، خاصة أن كلًا من المكان والمجسم يؤثر بعضه على بعض إلى حد كبير على نحو متبادل.. وككل قائم في فضاء قاعة العرض وبمفردات العمل من هندسية متراكبة من أشكال هرمية ومربعية ودائرية جعلت منحوتاته التكعيبية الرؤية آخذة في التحول الداخلي بفعل الحركية الكامنة في عناصره وتركيباتها معًا.. ففى اللوحة اعتمد على أشكال تنتسب إلى اللون وإيحاءات التوازن الحركي، وفي نحته استعمل مفردات في تجميعات وظفها بوسائل تركيبية ثابتة ليست على كفة الحركة كما في اللوحة.. فالتأثيرات البصرية الحركية في لوحاته كانت تكتمل عند النظر إليها وفي التمثال اكتملت الحركة وسكنت.. وهذا التحول فى الوسيط الفنى جعل المشاهد واعيًا ومتعايشًا، والعناصر التي سبق ولمحها فوق مسطح اللوحة.. كما أن الفنان أبرز نتوءات ريليفية بشكل طفيف أو قوي مستخدمًا هذا البعد الإضافي- البروز- لتسهيل انتقال عين المشاهد من منطقة لأخرى".
•  وحول لوحة "طاقة الصلاة" الشهيرة للفنان السكندري الكبير محمود سعيد، تذكر "فاطمة" أن هذه اللوحة التي رسمها الفنان عام 1946 لرجل بسيط في وضع الصلاة جالسًا في سكينة وخشوع وصفاء داخلي رغم مظاهر عاصفة لليلة شتوية بالقرب من شاطئ الإسكندرية، حيث افترش لصلاته.. وهذا المنذر بعاصفة أعلى اللوحة وأعلى البحر مخترقًا سماءه هو نفسه ما يوحي وكأنها إشعاعات مضيئة تنفذ عبر السحب تأتي من خلف ظهر المصلي من عمق اللوحة إلى المقدمة، كأنها تنطلق به لأعلى بينما هو راسخ فوق الأرض مستغرقًا بين يدى الله.. ليكون في اللوحة تمثل جميل لحالة بين الحركة والسكونية تفصلهما المياه.. وأيضًا بين الحالة المنبئة بالعاصفة الخارجية والحالة الروحانية الداخلية".
أخيرًا، أرى أن النقد عند "فاطمة علي" حالة إبداعية يقوم بها الناقد وتأتي بعد مرحلة تالية لإبداع الفنان في عمله ومنتجه وتجربته الخاصة والمتفردة، ويأتي النقد في مدارسه الحديثة قائمًا على سبر أغوار المنتج الفني والقراءة المنهجية الفاحصة بشغف وفضول لا يقل عن حالة شغف الفنان بالوصول إلى لحظة التوقيع على عمله، وبات النقد بمثابة بوصلة إبداعية للمتلقي وللفنان المبدع تشير لأفضل السبل والاتجاهات لكل منهم، كل ذلك وأكثر يحققه النقد الفني، مما جعل منه ضرورة لا غنى عنها في مختلف المواقع الإبداعية التشكيلية.. وإلى لقاء قادم للتوقف عند حالة ناقد مبدع آخر.
ولعلنا عبر تلك السلسلة من المقالات نصل لإجابات حول علامات استفهام من نوعية: هل هناك وجود مقنع لنقاد في الفنون البصرية؟ وهل حضورهم في دنيا الإبداع التشكيلي يحقق مساهمة فعلية  في تطوير الفنون؟ وهل حافظ النقد عبر قراءات نقادنا لإبداعات فنانينا على وظيفته الهامة في تقريب العمل الفني من المتلقي وفي تنمية الذوق الفني العام؟ وهل من وسيلة لمقاومة انتشار النقد الانطباعي المخل بدور الفنون في حياتنا؟