رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نحو استراتيجية ثقافية لمصر

إن أي منجز حضاري من بناء وتشييد وتصنيع وزراعة وما إلى ذلك لا يكتمل أبدًا ولا يستمر إلا ببناء الإنسان ووضعه في منظومة ثقافية تجعله قادرًا على إنتاج المعرفة والحفاظ على المنجزات، ولعل مصر في أمسّ الحاجة الآن لوضع رؤية واستراتيجية كاملة لإعادة صياغة الشخصية المصرية لتكون قادرة على إنتاج الحضارة مرة أخرى، ولعل هذا المقال يضرب معولًا في هذا المضمار.

في الحقيقة، قبل التفكير في مشروع قومي للثقافة المصرية؛ يجب أن نفكر أولًا في آليات التنفيذ، حيث إننا دأبنا فيما مضى على وضع النظريات والمشاريع والتصورات التي تبدو مثالية على الورق، ثم ما نلبث أن نكتشف عن أن هناك معوقات أكثر مما تخيلنا على أرض الواقع؛ قد تعصف بكل شيء، ولذلك فحري بنا أن نبدأ بالتفكير بحلول مبتكرة خارج الصندوق، حلول ثورية وحقيقية، وعلى ذلك لنبدأ في وضع الهيكلة اللازمة للتنفيذ والآليات قبل التخطيط لهذا المشروع، قد يبدو ذلك عجيبًا ومخالفًا لأبسط القواعد، ولكن نحن اتفقنا منذ البداية على التفكير بشكل غير نمطي وغير تقليدي، وعلى ذلك فإن الاقتراح المقدم مني هو بناء هيكل التنفيذ أولًا، ولأن الثقافة هي مشروع قومي تنموي تنمي المناعة الداخلية للمجتمع ضد التطرف والإرهاب والأمراض الاجتماعية فيجب أن يشمل الهيكل التنفيذي مجموعة وزارية كاملة، وألا يكون العبء وحده على وزارة الثقافة وحدها، لأن التردي الذي حدث في مصر في الثقافة له أسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية متشعبة، ليس لوزارة واحدة أيًا كانت قوتها وتأثيرها ومصادرها أن تتحملها، ولذلك فيجب أن يكون الهيكل التنفيذي لأي مشروع ثقافي كبير شاملًا كل الوزارات المعنية في مجموعة عمل واحدة ينتخب رئيسها، ويتبع هذا الكيان منظمة الرئاسة مباشرة أو مجلس الوزراء، وأن تشمل هذه المجموعة الوزارية كلًا من وزارات الثقافة والإعلام والشباب والرياضة والتعليم والتعليم العالي، وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، وزارة التضامن الاجتماعي، بعضوية الوزراء المعنيين وبعض من مستشاريهم وكبار الموظفين الفاعلين في الوزارة، وعلى أن تشمل العضوية بعضًا من الشخصيات الثقافية الفاعلة التي تملك مشروعًا حقيقيًا بعيدًا عن الشهرة أو التكالب على المناصب، وقد يشمل ذلك بعض الفنانين والأدباء الذين يجيدون العمل داخل فريق، والدارسين لعلوم الإدارة الحديثة ولديهم قدرة على الإنجاز الحقيقي، ومن ثم يكون الاختيار حسب معايير دقيقة تصب في المصلحة مهما كان موقف العضو من الشهرة أو من التحزب السياسي، لكن الأخذ بالعلوم الحديثة كالتكنولوجيا وبعض من المهارات الذاتية في التفكير وبلورة الأفكار والابتكار هو المعيار الأوحد، كما تضم هذه المجموعة بعضًا من رجال أعمال القطاع الخاص وعلماء الاجتماع وعلماء النفس ممن لديهم باع في الأبحاث الخاصة بعلم النفس الجمعي ودراسة الظواهر الاجتماعية وإعادة توجيهها لصالح هذا البلد.. ولعل السؤال هنا: لماذا القطاع الخاص؟، ببساطة لأن القطاع الخاص له نمط مختلف في التفكير وحل المشاكل بعيدًا عن البيروقراطية، كما أن له اتصالات خارجية وداخلية قد تسهم بشكل حقيقي في إنجاز الأعمال.

الخطوة الثانية في طريقتنا تلك هي عمل لجنة متابعة لمراجعة مدى ملاءمة القوانين لطريقة التنفيذ تلك، لأن آفاتنا في مصر هي عدم زيارة القوانين ومحاولة تعديلها لسنوات طويلة حتى لو انتهت صلاحيتها وأصبحت غير ملائمة للواقع وغير قابلة للتنفيذ، مما يدعو الناس للالتفاف حولها، لأنها تصبح قوانين معوقة وليست منظمة بعد فترات طويلة.

تكون هذه اللجنة لجنة متابعة وتطوير، وتعمل على تذليل العقبات التي تظهر في الطريق، كما تكون لديها القدرة على التقييم الحقيقي، لأن تقييم العمل الثقافي والمنتج الثقافي في غاية الصعوبة، لأن النتائج هنا غير مادية ولا يمكن حصرها أو عدها، ولذلك جاء تقييم المنتج الثقافي هزيلًا فيما سبق بإحصاء المنجزات على أنها كم مكتبة فتحت أو كم مسرحًا وقصر ثقافة، لكن كم طفل قرأ، كم شخص تثقف، كم عادة سيئة تخلصنا منها، مقدار الوعي المجتمعي تجاه قضايا معينة، لا معايير لذلك عندنا، وبالتالي فنحن بحاجة إلى دراسة المعايير العالمية في تقييم المنتج الثقافي ودراسة حركة المجتمع وعلى هذا الإساس فإن علماء الاجتماع والإحصاء المجتمعي لابد من حضورهم. بهذا نكون قد كونا الهيكل، وليتساءل سائل: وأين المشروع ذاته، ولعلي أذكركم هنا أننا نعمل من الخلف للأمام للأسباب التي ستضح فيما بعد، على هذين اللجنتين العمل أولًا، المجموعة الأولى في التنسيق بين الوزارات واختيار الأعضاء وانتخاب الرئيس وتحديد المسئوليات وتحديد آليات رفع التقارير للمستوى الأعلى أي كان، أما لجنة المتابعة فعليها وضع المعايير التي سيتم على أساسها التقييم وتقديم الإحصائيات عن الحالة الثقافية الحالية ونقاط ضعفها وقوتها وكيفية مواجهة التحديات وبعد الانتهاء من تلك المهام.

تأتي الخطوة الثالثة وهي اختيار لجنة الحكماء الذين سيرسمون الخطة الثقافية الاستراتيجية لمصر التي لابد من اختيارها بعناية ليس من مثقفي البلد وفنانيها، ولكن من كفاءات تعمل بالآيات والعلوم الحديثة ولديهم القدرة على الإنجاز وليس المناقشات التي لا تنتهي وإعلاء الذات وشهوة الحديث لجنة الحكماء هذه تتكون من 15 عضوًا بحد أدنى يتم اختيارهم على أساس معايير دقيقة وضعت مسبقًا من اللجنتين السابقتين، وعلى لجنة المتابعة متابعة وضع الخطة وتعديل أساليب التقييم الثقافي حسب المستحدثات وعلى لجنة التنفيذ أو المجموعة الوزارية تحديد آليات التنفيذ أثناء إعداد الخطة وليس بعدها. بهذه الطريقة يكون لدينا هيكل قوي قادر على التنفيذ والمتابعة للخطة التي سيرسمها مجلس الحكماء والمنظرون. أما عن الخطة ذاتها فلدي بعض المقترحات التي قد تدخل في صلب خطة متكاملة يضعها مجلس الحكماء ومنها في نقاط سريعة:

  1. تفعيل دور قصور الثقافة والثقافة الجماهيرية وربطها بالمجتمع وبالمدارس من خلال برتوكولات بينية.
  2. تفعيل مسرح المدرسة والجامعة بشكل فعال وربطه بالإعلام وتقديم الدعم التقني والفني واستقدام فنانين من المسرح الخاص للمساهمة وتسليط الضوء عليه.
  3. تدريس مادة الإبداع والابتكار والبرمجة للأطفال في المدارس وتقديم مشاريع يسهم فيها القطاع الخاص.
  4. التوسع في عقد المؤتمرات الأدبية والفنية في كل محافظات مصر ودعوة أدباء وفنانين عالميين ودمج النشاطات مع المجتمع المدني. 
  5. تدريس مواد خاصة بالمهارات الشخصية مثل مهارات الاتصال ومهارات تقديم العروض والتخطيط ومبادئ إدارة المشروعات في المدارس وبدء من المرحلة الإعدادية. 
  6. دعم السينما المستقلة وعرض الأفلام الجيدة في دور السينما قبل الأفلام كما كانت الجريدة المصورة تعرض، وتخصيص جزء من الإيرادات لأصحاب الأفلام المستقلة، وكذلك المساعدة في بيعها للقنوات الفضائية، من خلال مسابقات لضمان جودة الأفلام. 
  7. فتح مدارس فنية خاصة بصناعة السينما لتخريج الفنيين العاملين في الإضاءة وحركة الكاميرا والديكور وغيرهم من الفنيين فبعض الأقسام كالخراطة والنجارة في المدارس الفنية الحالية لم تعد مجدية مجتمعيًا.
  8. دعم الترجمة من اللغات الأخرى ودعم ترجمة الادب العربي والانفتاح على ثقافات العالم من خلال استقدام أدباء وعروض وفنانين ودمجهم في الحركة الفنية والثقافية المصرية لحدوث حالة من التلاقح الثقافي مع العالم.
  9. تسهيل إجراءات الحصول على تصاريح تصوير الأفلام العالمية في مصر ودمج الفنيين المصريين في كرو هذه الأفلام.
  10. استحداث ثقافة الكرنفالات والاحتفالات الشعبية في الشوارع في أعياد المحافظات والاهتمام بالفنون الشعبية وبالطابع الثقافي والجغرافي للمحافظة بما في ذلك المنتجات والحرف اليدوية والمساعدة في تسويق المنتجات داخل وخارج مصر. 
  11. تدريس الفنون المختلفة في المدارس وعدم الاكتفاء بالرسم فيمكن في المراحل الإعدادية والثانوية وحتى الجامعية تدريس مبسط لتاريخ الفن وإنشاء مادة للمسرح تدرس بعض المسرحيات كمادة أساسية. 
  12. تفعيل فكرة البعثات الثقافية للجامعات والمنتديات والمؤتمرات العالمية شريطة أن تأتي هذه البعثات بفائدة وطنية من استحداث مشاريع ثقافية وأفكار وتقديم تقارير حقيقية ودمج كل المبدعين على اختلاف أعمارهم واعتبارها مهمة رسمية ليس للمجد الشخصي وإنما لنقل التجارب الثقافية لبلدنا الحبيب.
  13. عقد الندوات الثقافية والفنية داخل المدارس وإلزام الفنانين والمثقفين من خلال النقابات بتقديم دعم مجتمعي حقيقي من زيارة المدارس والجامعات لتقديم قيمة حقيقية.
  14. تفعيل دور التربية في المدارس من خلال تدريس مادة الأخلاق والمعايير المجتمعية واحترام المختلفين والقضاء على التنمر ودمج أصحاب القدرات الخاصة في المجتمع، وإعلاء شأن الوطن وإعادة ثقافة العمل.
  15. دعم الأسر المنتجة على تقديم منتجات أسرية حقيقية ودمج ثقافة العمل وغرسها في الأطفال.

وما هذه المقترحات إلا غيض من فيض مطلوب من لجنة الحكماء أن تقدم العشرات منها وعلى لجنة التنفيذ تحديد قابلية التنفيذ من خلال اللجنة الوزارية، أما لجنة المتابعة والجودة فعليها متابعة حركة المجتمع والمنجزات الحقيقية في إعادة صياغة شخصية مصرية جديدة تقوم على العلم ونبذ العنف والمشاركة في صنع الحضارة والحفاظ على منتجاتها.