رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جنة «ألموت» والقتلة المحترفون

رسم المؤرخون صورة لقلعة «ألموت» يختلط فيها الواقع بالخيال، والحقيقة بالأسطورة، وقد بلغ بهم الخيال مبلغه حين تحدثوا عن «الفردوس الأعلى» أو «الجنة» التى شيّدها الحسن الصباح داخل القلعة. وتغزلوا فى وصف جماليات الحديقة التى اشتملت عليها، وكيف كانت تحتشد بكل أنواع الأشجار والثمار، وتجرى بها الأنهار التى يتدفق فيها اللبن والعسل المصفى، وتتجول فيها الحور العين، ليهدين جمالهن إلى من يسمح له «شيخ الجبل» بدخول الجنة. 

ذهب المؤرخون إلى أن «الصباح» شيّد جنة على غرار الجنة التى وعد بها الله المتقين فى القرآن الكريم، وقطع بعضهم بأن الشيخ كان يمنح الفدائيين الذين يعدهم للقيام بعمليات الاغتيال مخدر «الحشيش»، ثم يدخلهم جنته لينعموا بما فيها من أطايب، ليطلقهم بعد ذلك على من يشاء من أعدائه ليعملوا فيهم خناجرهم، واعدًا إياهم بأنهم بعد تنفيذ الاغتيالات سيخلدون فى هذه الجنة إلى الأبد. 

وقصة «الحديقة» وتعاطى مخدر «الحشيش» تبدو إلى الخيال الدرامى أقرب منها إلى حقائق ومعطيات الواقع، وقد ذكرت لك فيما سبق أن القدرة على التحكم فى حواس الجسد كانت تشكل جانبًا من جوانب تدريب الفدائيين، وأن المسألة لم تكن مرتبطة بتعاطى «الحشيش»، وأن من تحركوا مع الحسن الصباح رأوا فيه أملًا، وزعيمًا قادرًا على إخراجهم من صحراء الظلم إلى جنات العدل. كان «شيخ الجبل» دقيقًا فى اختيار كوادره ممن يعانون إحساسًا بالظلم، ليمارس عليهم تأثيره، مستغلًا قدراته الشخصية، ومهارته فى الإقناع، بحيث ينتهى الشخص إلى فكرة أن الحسن الصباح هو المخلص، وأن قلعة «ألموت» أرض الخلاص.

وقد جعل الحسن الصباح من قلعة «ألموت» نموذجًا استثنائيًا، وسط نماذج لدول وجماعات تفشى فيها الظلم، وعم الفساد. وبقدر ما كان شيخ الجبل ميالًا إلى جعل الحياة داخل القلعة شديدة الصرامة والجدية، بقدر ما كان يستند إلى العدل فى حكم من يعيشون فيها، حتى ولو كانوا أبناءه، والباحث المدقق لا يملك وهو يحلل شخصية الرجل إلا أن يقرر أننا بصدد شخصية من طراز خاص، يتفاعل بداخلها الكثير من الثنائيات، من بينها، على سبيل المثال، ثنائية الطموح والزهد، فبقدر ما تمتع «الصباح» بالطموح السياسى، فقد عاش حياته فى القلعة داخل حجرته التى لم يكن يخرج منها، إلا لمامًا، وانكب على البحث والقراءة وكتابة رسائله الدعوية إلى مريديه، أضف إلى ذلك ثنائية رفض الظلم ومحبة العدل، ثم معالجة الظلم بظلم أكبر، ويبدو أن ذلك هو ديدن المتمردين فى كل زمان ومكان، فهم يتحركون فى تمردهم على الواقع بدافع مقاومة الظلم، وبمجرد أن تواتيهم الفرصة تجدهم يسفكون الدماء، وهم الذين تباكوا بالأمس على الدم المسفوح، لكن يبقى أن «الصباح» استطاع أن يقدم نفسه فى صورة «المخلص» بالنسبة للبسطاء من الناس.

يقول «محمد كامل حسين»، فى كتابه «طائفة الإسماعيلية»: «لما عاد الحسن الصباح من مصر جمع حوله مجموعة من الفلاحين الإيرانيين، واستجاب له كل من شعر بظلم السلاجقة الأتراك وسوء حكمهم، ولا سيما السلطان ملكشاه السلجوقى الذى كان ظالمًا غشومًا إلى أبعد حد، فقد اضطهد الناس جميعًا، ولا سيما الشيعة الإسماعيلية، وقتل منهم عددًا كبيرًا، مما جعل الناس فى عهده تراودهم أحلام الشيعة الذهبية القديمة، من تمنى وجود إمام عادل يملأ الدنيا عدلًا بعد أن ملئت جورًا، فجاءهم الحسن الصباح يبشرهم بقرب تحقيق هذا الحلم». 

من هؤلاء الفلاحين شكّل «الحسن الصباح» فرق الاغتيالات الأولى التى استخدمها فى تصفية خصومه ومناوئيه، حتى انتهى به الأمر إلى الاستيلاء على قلعة «ألموت». وعادى الحسن الصباح الجميع «الإسماعيلية المستعلية»، الذين أيدوا إمامة المستعلى، وبخسوا حق نزار بن المستنصر فى ولاية عهد أبيه، والسلاجقة الأتراك الذين كانوا يطاردون الإسماعيليين، والصليبيين الغربيين، الذين جاءوا طامعين فى أرض المسلمين، والخلافة العباسية، والدولة الأيوبية، كان الحسن الصباح تركيبة تستعذب معاداة الجميع، لأنها ترى فى نفسها موطن الحق والحقيقة، وتعتبر غيرها على ضلال وباطل. 

شرع «الصباح» فى التمدد إلى قلاع ومواقع جديدة، بعد استيلائه على قلعة «ألموت» فيما يشبه «الانقلاب الأبيض» عام ١٠٩٠. ساعده على ذلك حالة التراجع والاهتزاز التى أصابت الدولة السلجوقية، بعد وفاة السلطان «ملكشاه»، وتولى ولده «سنجر» الحكم. وكانت عدته فى ذلك الصبية من أبناء المؤمنين بمذهبه، إذ جمع هؤلاء وأحسن تدريبهم على استخدام كل الأسلحة التى كانت شائعة فى ذلك العصر، وعلمهم كيف يستترون من الناس، وكيف يحتفظون بأسرارهم وأسرار من معهم، ولا يبيحون بها فى حالة القبض عليهم، وإذا استيأس «الحشاش» من قدرته على المقاومة حال القبض عليه، فعليه أن يقتل نفسه بيده. 

لقد استند التدريب داخل قلعة «ألموت» إلى مجموعة من القيم الأساسية، من أبرزها: الكفاءة القتالية، والحيلة فى التنكر، والسرية فى التحرك، والغيلة فى الأداء. ولو أنك تأملت وحللت عددًا من وقائع الاغتيال التى تمت على يد «فرق الموت»، فسوف تدرك مستوى الاحترافية، الذى كان يؤدى به أعضاؤها فى تنفيذ أهدافهم، قياسًا إلى مستوى الأداء القتالى الذى ساد ذلك العصر. 

كان أداء فرق الاغتيالات مختلفًا أشد الاختلاف، فى نوع السلاح، حيث مالوا إلى استخدام الخناجر والسكاكين، الأنسب للاغتيال، وفى القدرات التمثيلية والتنكرية العالية التى امتازوا بها، بالإضافة إلى عدم الاكتراث بنتائج العمليات التى كانوا يقومون بها، فكانوا أقرب إلى «الانتحاريين» بالمصطلح الحديث، منهم إلى المقاتلين النظاميين.