رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا تطفئوا الروح

تردد القول على ألسنة أهل النغم والطرب، أنه بسؤال موسيقار الأجيال "محمد عبدالوهاب" عن رأيه في النجاح الجماهيري الهائل لمُغني "السح الدح امبو" أن رد على سؤالهم بسؤال ألا ترون معي أن هناك شيئا ما قد مات في الشعب المصري؟!.. 
ومن منا لا يتذكر رد الفعل الشهير للكاتب العظيم توفيق الحكيم عندما لاحظ حالة الاحتفاء الفرحة الهائلة عند دخول لاعب كرة شهير مبنى الأهرام ووقوف موظفي الاستقبال تحية له، وهو الذي لا يحظى به أي كاتب أهراماتي عند دخوله باستثناء رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير، وعندما علم الحكيم أن بعض لاعبي كرة القدم دون العشرين يتقاضون ملايين الجنيهات، أطلق عبارته الشهيرة "لقد انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم، لقد أخذ اللاعب الشهير في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام إخناتون"، وفي تصريح قد لا يوافقه عليه الكثيرون عندما علق على الفترة الممتدة بين الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة يوليو 1939 – 1952 أنها فترة انحطاط الثقافة المصرية إلى حد وصفه لها بصحيفة أخبار اليوم بالعصر"الشكوكي"، وذلك نسبة إلى محمود شكوكو ..
يقول كاتبنا الأهراماتي العتيد الراحل صلاح منتصر "أنه ذات يوم فاجأني توفيق الحكيم بطلب غريب.. أن أكتب له كل ما أريد من أسئلة، وأحضر في اليوم التالي لأتسلم منه الرد مكتوباً.. وتصورت أنه يبالغ، فهو على فراش المرض وكان مازال تحت المتابعة والعلاج لأمراض القلب والأعصاب والضغط وهو يعاني متاعب وعكته الصحية الأخيرة، فقلت له ضاحكاً، إنني أريد أن أسأله عن أول ما سوف يفعله في الأخرة.. قلت هذا، وتصورت أن الحكيم لن يأخذ كلامي على سبيل الجد، لكنني فوجئت بعد يومين يُسلمني ست صفحات من ورق المستشفى، مكتوب عليها بخط واضح خال من الشطب رداً على سؤالي" في الأخرة مع طه حسين، وقد كتب فيها تصوراً كاملاً للقائه في الأخرة مع طه حسين صاحب شعار "التعليم كالماء والهواء" والحوار الذي جرى بخصوص نتائج هذا الشعار، وتداخل الآخرين الذين حضروا الحوار، ومنهم عباس العقاد ونجيب الهلالي، والغريب روعة ما جرى من حوار تخيلي أجراه الحكيم على ألسنتهم وهو في عمر الـ 86 سنة مريضاً ويكاد يدري أنه مرض ما قبل الرحيل"..
كانت تلك الفقرة بعض ماجاء على لسان "منتصر" وتلك كانت أسئلته التي ضمنها وغيرها الكثير كتابه الرائع "توفيق الحكيم في شهادته الأخيرة" رأيت أن أعرضها ليرى القارئ مدى روعة خيال كاتبنا الكبير، ومدى جدية وحزم إدارته لعمله الإبداعي، حتى إنه يبحث كل ساعة عن مثيرات للإبداع لمواصلة رسالته الإنسانية النبيلة حتى في أيامه، بل وفي ساعات عمره الأخيرة..
ومن منا ينسى أنه بتاريخ 2 / 12/ 1985 قد طرح الحكيم سؤاله المفاجأة عندما أورد فى مقاله بالأهرام، كتب: قرأت في دفتري عبارة أفزعتني، وسجلتها لأسال فيها حتى يطمئن قلبي.. عبارة جاءت في الإصحاح الثانى عشر من إنجيل لوقا قال فيها السيد المسيح: "جئت لألقى نارًا على الأرض.. أتظنون أنى جئت لأعطى سلاماً على الأرض، كلا أقول لكم بل انقساماً..".. فكيف والمسيح ابن مريم كلمة من الله، جاء ليُلقى نارًا على الأرض.. فكيف يكون الله تعالى هو الكريم، وأنه كتب على نفسه الرحمة، ويقول فى قرآنه أن المسيح كلمة منه.. والمسيح يقول فى إنجيل لوقا أنه جاء ليُلقى نارًا على الأرض؟ وغمرتني الدهشة وقلت لا بد لذلك من تفسير، فمن يفسر لي حتى يطمئن قلبي؟ وصرت أسال من أعرف من أخواننا المسيحيين المثقفين، فلم أجد عندهم ما يريح نفسي.. أما فيما يختص بالمسيحيين فمن أسال غير كبيرهم الذى أحمل التقدير الكبير لعلمه الواسع وإيمانه العميق.. البابا شنوده.. فهل المسيحى العادي يفطن لأول وهلة إلى المعنى الحقيقي لقول السيد المسيح؟..
هكذا، وبكل شفافية وصدق ونية خالصة من جانب مفكر يبحث عن تفسير لمقطع وآيات من الكتاب المقدس فبادر بطرح سؤاله، وكانت إجابة قداسة البابا مطولة ضافية أعرب في بدايتها عن سعادته بطرح الكاتب الكبير وطلبه الإجابة، وثمن عاليًا أن يتيح "الأهرام" الفرصة لمثل تلك الحوارات على ذلك المستوى المحترم واللائق..
 جاء في معرض رد قداسته "لست مستطيعًا أن أذكر كل ما ورد فى الإنجيل عن رسالة السلام فى تعليم السيد المسيح" فهي كثيرة جدًا (ذكرها وعددها قداسته بتفسيراتها ولا يتسع المجال هنا لعرضها)، وكمقدمة ينبغى أن أقول إن الإنجيل يحوي الكثير من الرمز، ومن المجاز، ومن الاستعارات والكنايات من الأساليب الأدبية المعروفة.. جئت لألقى نارا: وهى قول السيد المسيح "جئت لألقى نارًا على الأرض، فماذا أريد لو أضطرمت (لو 12: 49)، إن النار ليست في ذاتها شرًا، وإلا ما كان الله قد خلقها، ولست بصدد الحديث عن منافع النار، ولا عما قيل عنها من كلام طيب في الأدب العربى، وإنما أقول هنا إن النار لها معانٍ رمزية كثيرة فى الكتاب المقدس: فالنار ترمز إلى عمل الروح القدس فى قلب الإنسان، وقد قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح "هو يعمدكم بالروح القدس ونار" (لو 3: 16) وقد حل الروح القدس على تلاميذ المسيح على هيئة ألسنة كأنها من نار (أع 2: 3) وكان هذا إشارة إلى أن روح الله ألهبهم بالغيرة المقدسة للخدمة، وهذه الغيرة يشار إليها فى الكتاب المقدس بالنار، وهى النار التى أعطت قوة لتطهير الأرض من الوثنية وعبادة الأصنام، وهذه النار هى مصدر الحرارة الروحية، وقد طلب منا فى الإنجيل أن نكون حارين في الروح"(رو 12: 11) وقيل أيضًا "لا تطفئوا الروح".. انتهى الاقتباس من حوار الكبار، وقد تتوافر الفرص لعرض المزيد من فقرات الحوار في مقالات قادمة.. فقط "لاتطفئوا الروح".