رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد على.. الباشا الوطنى

لو عرفنا الوطنية بالإنجاز فهذا الرجل أنجز الكثير جدًا من أجل مصر 

آمن بدور مصر وقدراتها وأطلق مواهب أبناء شعبها الكامنة 

مناهج التاريخ اعتادت تشويهه هو وأسرته وآن الأوان للتوقف عن هذا

مرت ذكرى وفاة «محمد على باشا» مؤسس الدولة المصرية الحديثة، وهو واحد من ثلاثة حكام عرفوا أن قيمة مصر أكبر مما هى عليه فى الواقع، وانطلقوا فى خطة طموحة لإعادة بناء مصر.. وقد كان هناك زعيم رابع وعى قيمة مصر كوطن ولكن الظروف لم تمكنه من الحكم، وإن كان استطاع إشعال ثورة شعبية كبيرة.. أما الحاكمان الآخران اللذان شابها محمد على فى الطموح والرغبة فى البناء فهما «جمال عبدالناصر» و«عبدالفتاح السيسى» وثلاثتهم ضباط فى الجيش المصرى، وإن كان محمد على هو الضابط المؤسس لهذا الجيش بالمعنى المادى والمهنى.. أما الزعيم الرابع الذى لم تتح له فرصة الحكم فهو سعد باشا زغلول صاحب شعار مصر للمصريين.. إن ذكرى «محمد على باشا» تصلح مناسبة للدعوة لإعادة قراءة تاريخنا بإنصاف، ورد الاعتبار لكل من قدم شيئًا لهذا الوطن، بغض النظر عن اعتبارات السياسة، وصراعات الأفكار.. ولا شك أن ثورة يوليو «وأنا من عارفى قدرها» قد اتجهت، لا شعوريًا، للتقليل من شأن أسرة محمد على التى أنهت الثورة حكمها، وكان قادتها متأثرين من فساد وسفاهة آخر حكامها.. وقد انعكس هذا على نظرة أدعى أنها غير منصفة سادت مناهج التاريخ فى مدارسنا وجامعاتنا تهدف للتقليل من شأن حكام أسرة محمد على وإظهارهم بمظهر السفهاء أو المتخاذلين أو الخونة ظنًا من واضعى المناهج أن ذلك يؤكد شرعية الحكم الجديد فى مصر، أو أنه يغلق الباب على ورثة أسرة محمد على إذا فكروا فى العودة لحكم مصر.. وهو فرض خيالى تمامًا لأن هذه الأسرة حكمت بتأييد من شعب مصر وجيش مصر، وتركت الحكم حين قرر الشعب أنها لم تعد تصلح، ونفذ الجيش الحكم كما كان الحال دائمًا، وبالتالى فقد انتفى مصدر شرعيتها.. منذ خلع الجيش المصرى الملك فاروق يوم ٢٦ يوليو ١٩٥٢ وإلى الأبد.. ولكننى أظن أن إعادة قراءة التاريخ تفيدنا نحن المصريين حيث تدربنا على النظرة الموضوعية، وعلى عدم المغالاة، وعلى أن نشعر بالامتنان تجاه من قدم لنا جهدًا وإنجازًا بقى على مر التاريخ.. من دواعى الدعوة لهذه النظرة المنصفة أيضًا أن نقرأ تاريخ رحلة مصر نحو المدنية، والانفتاح على العالم، وتطبيق القانون الحديث، وإدخال علوم الطب إلى مصر، وهى كلها خطوات قام بها محمد على باشا وكانت بمثابة صفعات على وجوه المتطرفين، الذين حاولوا مقاومة جهوده لتحديث المجتمع فعصرهم بقبضة يده القوية، ومارس ما يمكن تسميته بـ«التحديث بالقوة» وهو ما صب فى النهاية فى مصلحة هذا البلد العظيم، الذى تحول لقوة ضاربة خلال سنوات قليلة، ووقفت جيوشه بجنودها من الفلاحين المصريين على أبواب الأستانة بعد أن هزمت جيوش السلطان العثمانى.. لولا تآمر الغرب على مصر القوية وإجباره لها على تخفيض جيوشها وقص أجنحتها القوية التى طارت بها فى سماء الحلم.. وفى الداخل ما زالت علامات هذه النهضة قائمة من عشرات الزراعات التى أدخلها الباشا إلى مصر.. إلى كليات طب قصر العينى والألسن ودار العلوم التى أسست فى عهده، إلى القناطر الخيرية وغيرها، إلى الترع الكبرى التى ما زالت تحمل مياه النيل لأرجاء مصر المختلفة، وبالتالى فإن الاحتفاء بمحمد على هو احتفاء بالتحديث ضد التخلف، وبالحكم المدنى ضد الحكم الدينى، وبالوطن المصرى، ضد «الولاية المصرية التابعة لتركيا» وهو معنى يكرهه الإرهابيون والمتطرفون الذين يتحسسون أقفيتهم حتى الآن كلما ذكر اسم محمد على، ويكرهونه كراهية التحريم بشتى فصائلهم خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار دوره العظيم هو وابنه إبراهيم باشا فى محاربة الأفكار المتطرفة فى شبه الجزيرة العربية، وهى أفكار تبرأ منها الإخوة فى المملكة العربية السعودية وأدركوا خطرها منذ سنوات قليلة.. إننى ما زلت أذكر أن «محمد على» كان يُختصر فى مناهج التاريخ التى ندرسها فى أمرين أولهما «أنه ارتكب مذبحة المماليك» وثانيهما أنه كان يمارس سياسة الاحتكار وأنه كان «الصانع الوحيد والتاجر الوحيد والزارع الوحيد» والحقيقة أن هناك مئات الحقائق الأخرى التى يجب ذكرها عن هذا الرجل غير هذين الأمرين اللذين انعكسا فى المجمل النهائى على مصر بالإيجاب.. وإلى جانب ذلك التشويه فى بعض مناهج التاريخ المدرسى ثمة تشويه آخر يمارسه بعض المؤرخين من أنصار فكرة النظرة للوجه الآخر للتاريخ.. أو كتابة التاريخ من وجهة نظر المهمشين وهو تيار أسسه الفيلسوف الفرنسى المعروف «ميشيل فوكو» ويجد صداه فى كتابات المؤرخ المصرى البريطانى «خالد فهمى» الذى قدم رؤيته لعصر محمد على فى كتابين هما «كل رجال الباشا» و«السعى للعدالة.. قصة القانون والطب فى مصر» وهو فى كليهما يحاول تمثل وجهة نظر الشعب من خلال رواية جزء من القصة.. فهو يقول إن الفلاحين المصريين كانوا يهربون من التجنيد فى جيش الوالى وكانوا يقطعون إصبع السبابة حتى يصبحوا غير صالحين للجندية، ويدلل على هذا بوجود قمع ما من الباشا للشعب.. لكن الحقيقة أنه إلى جانب هؤلاء الذين أرادوا الهرب فإن هناك آلافًا من الفلاحين المصريين وجدوا ذاتهم فى الجندية، وقدموا أروع قصص الفداء والبطولة، وتم تكريمهم بالأوسمة والنياشين، ومن الجيل الثانى من الجنود المصريين خرج أحمد عرابى وعبدالعال حلمى وعلى فهمى، واستشهد محمد عبيد على مدفعه وهو يحارب فى كفرالدوار.. لكنها وجهة نظر «فوضوية» معادية لفكرة الدولة القوية من الأساس.. أو إن شئت الدقة معادية لفكرة «الدولة» عمومًا ككيان قانونى وسياسى ينظم حياة الناس.. لقد فهم محمد على «مواليد ١٧٦٩ فى اليونان» الواقع المصرى بعد الحملة الفرنسية، حيث اصطدم المصريون بالحضارة، وأعجبوا بمنجزات العلم والمدنية، لكن الاختلاف الدينى منعهم من قبول حكم الفرنسيين وإن لم يمنعهم من التفكير أن من حقهم بناء نهضة مصرية تستفيد بمنجزات الحضارة مع مراعاة التقاليد الإسلامية والعربية، وما إن عادت حالة الفوضى والصراع بعد انسحاب الفرنسيين حتى أعلن المصريون تمردهم، وحاصروا الوالى العثمانى فى القلعة، وطلبوا من محمد على قائد القوة الألبانية فى مصر أن يتولى حكم مصر، ورضخ السلطان العثمانى سليم الثالث وأصدر فرمانًا بتولية محمد على الذى كان عسكريًا موهوبًا ذا حزم وعزم.. قضى على الفوضى المرعبة فى أول ست سنوات من حكمه، حيث كان المماليك يسيطرون على حكم الصعيد ويهاجمون القاهرة.. وقد قال لأحد ضيوفه الأوروبيين إنه لا يحب تذكر الست سنوات التى سبقت ١٨١١ لأنه ارتكب فيها أشياء لا يحبها لكنه كان مضطرًا إليها، وفى كتابه «محمد على الكبير» يقول د. شفيق غربال، عمدة المؤرخين المصريين إن مذبحة المماليك كانت من تدبير الجنود الألبان وإنهم اشترطوا القيام بها قبل الخروج للحجاز لمحاربة الوهابيين وإنهم أجبروا الوالى عليها، وإن الأوضاع كانت بلغت قبل حكم محمد على حدًا من الانفلات لا يمكن وصفه، وكان أقسى ما يلخص الوضع ما قاله عبدالرحمن الجبرتى عن أحوال الفلاحين المصريين واستساغتهم الظلم والمعاملة القاسية واندهاشهم من وجود من يعاملهم بالعدل من «الملتزمين» أو متعهدى جمع الضرائب وتوريدها للوالى، حيث يقول الجبرتى حرفيًا «إذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه فى أعينهم واستهانوا به وبخدمه، وماطلوه فى الخراج، وسموه بأسماء النساء، وتمنوا زوال التزامه بهم، وولاية غيره من الجبارين الذين لا يخافون ربهم، ولا يرحمهم، لينالوا بذلك أغراضهم بوصول الأذى لبعضهم! وكذلك أشياخهم (شيوخ البلد) إذا لم يكن الملتزم ظالمًا لا يتمكنون هم أيضًا من ظلم فلاحيهم، لأنه لم يحصل لهم رواج إلا بطلب الملتزم الزيادة والمغارم، فيأخذون لنفسهم فى ضمنها ما أحبوا»!! والرجل يقول باختصار إن الفلاحين كانوا يستعذبون الظلم ويحتقرون مَن يعاملهم باللين، ثم يقول إن محمد على غير هذا كله «وقد انخرم هذا الترتيب بما حدث فى هذه الدولة من قياس الأراضى والفدان»... يمكن القول باختصار إن هذا الضابط الألبانى أصبح مصريًا بالاختيار، والاستيطان، وإنه فهم طبيعة مصر والمصريين بإيجابياتها وسلبياتها، وتعامل معها بمزيج من الشدة واللين، وإنه أول من جند المصريين فى الجيش بعد آلاف السنين من زوال حكم المصريين لأنفسهم، وأنه بسط نفوذ مصر على ما حولها، وما زال أهلنا فى الشام يطلقون على النقود كلمة «المصارى» نسبة إلى النقود التى كان يوزعها الجيش المصرى بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد على، الذى يقول أستاذنا محمد عودة إنه أول قومى عربى، وإنه كان يقول سأقف بجيشى حيث ينتهى اللسان العربى، لقد أرسل الباشا أبناء الفلاحين لأوروبا ليتعلموا الطب والهندسة والقانون والزراعة ويعودوا ليشاركوا فى نهضة بلدهم، وأتاح الفرصة للفرنسيين من «السان سيمونيين» لتطبيق أفكارهم والمشاركة فى نهضة مصر، وانفتحت البلاد فى عهده على الحضارة العالمية مع وعى وحرص عرف به، وقد قال مهاجموه إنه ربط النهضة الصناعية والزراعية بالجيش، فلما تقلص عدد الجيش تراجعت الصناعة والزراعة.. وهو هجوم غير موضوعى.. وكأنهم يحملون الضحية مسئولية ذبحه.. ويبرئون الجانى الذى هو الدول التى تآمرت على مصر.. ومع ذلك فقد بقيت الصناعات والزراعات التى أسسها حتى الآن وما زلنا نستفيد بها، ولعل أبرز إنجازاته هو الجيش الوطنى الذى سبق غيره من جيوش المنطقة بعشرات من السنوات تنعكس فى تقاليده العريقة ومهنيته ووعيه بدوره ووطنه وعلاقته بمواطنيه.. تحية نتوجه بها لهذا الرجل نتعلم بها الإنصاف والموضوعية وفهم الوطنية بمعناها الصحيح من حيث هى العمل والإنجاز وليس الهتاف والحديث عما كان ينبغى فعله.. وبهذا المعنى فمحمد على وطنى مصرى عظيم إن لم يكن هو مؤسس الوطن المصرى الحديث.