رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جمال عبدالناصر يكتب: لهذه الأسباب قمنا بالثورة

جمال عبدالناصر
جمال عبدالناصر

لم تتح الظروف الفرصة للزعيم جمال عبدالناصر أن يكتب قصة الإعداد لثورة يوليو كمذكرات شخصية أو ككتاب تاريخ يؤرخ فقط لهذه المرحلة من عمره السياسى.

لكنه تعرض لجانب من قصة الثورة ودوافعه وزملائه للقيام بها فى كتابه «فلسفة الثورة» الذى أملى مادته على الأستاذ محمد حسنين هيكل حسب معظم الروايات الموثوق بها.. فى السطور القادمة ننشر جزءًا من كتاب «فلسفة الثورة» عبر فيه عبدالناصر عن فهمه لثورة يوليو كحلقة من حلقات النضال الوطنى عبر التاريخ وشرح فيه دوافع الضباط الأحرار للقيام بالثورة.

قبـل أن أمضى فى هذا الحديث أريد أن أقـف قليلًا عنـد كلمـة «فلسفة»، إن الكلمـة ضخمة وكبيرة.. وأنـا أحـس وأنـا واقف حيالهـا أنى أمـام عـالم واسع ليـس لـه حـدود، وأشـعر فى نفسى برهبة خفيـة تمنعنـى مـن أن أخوض فى بحـر لـيـس لـه قـاع، ولا أرى لـه عـلى البعـد مـن الشاطئ الـذى أقـف فيـه شـاطئًا آخـر انتهـى إليـه، والحـق أنى أريد أن أتجنـب كلمـة فلسـفة فى هـذا الـذى سأقوله، ثـم أنـا أظـن أنـه مـن الصعـب عـلىّ أن أتحـدث عـن فلسفة الثـورة.. مـن الصعـب لسببين:

أولهـما: إن الحديـث عـن فلسـفـة ثـورة ٢٣ يوليـو يلزمـه أساتذة يتعمقـون فى البحـث عـن جذورهـا الضاربة فى أعـماق تاريـخ شـعبنا.

وقصـص كـفـاح الشعوب ليس فيهـا فـجـوات يملؤهـا الهبـاء، وكذلك ليس فيها مفاجآت تقفز إلى الوجـود دون مقدمات. 

إن كفاح أى شعب، جيـلًا مـن بعـد جـيـل، بنـاء يرتفـع حـجـرًا فوق حجر.

كما أن كل حجر فى البناء يتخـذ مـن الحـجـر الـذى تحتـه قاعـدة يرتكـز عليهـا، كذلـك الأحـداث فى قصـص كـفـاح الشعوب كل حدث منهـا هـو نتيجة لحـدث سبقه، وهـو فى نفـس الوقـت مقدمـة لـحـدث لا يزال فى ضمير الغيـب.

ولست أريـد أن أدعـى لنفـسى مقعـد أسـتاذ التاريخ.. ذلك آخر ما يجرى به خيالى.

ومع ذلك فلـو حاولت محاولة تلميـذ مبتـدئ، فى دراسـة قصـة كـفـاح شـعبنا، فأنـا سـوف أقـول مثـلًا، إن ثـورة ٢٣ يوليـو هـى تحقيـق للأمـل الـذى راود شـعب مـصر، منذ بدأ فى العصر الحديث يفكر فى أن يكون حكمـه بأيـدى أبنائه، وفى أن تكـون لـه الكلمـة العليا فى تقرير مصيره.

لقـد قـام بمحاولة لم تحقـق لـه الأمـل الـذى تمنـاه، يـوم تزعـم السيد عمـر مـكـرم حركة تنصيب محمـد عـلى واليـًا عـلى مـصر، باسـم شـعبها. 

وقام بمحاولة لم تحقـق لـه الأمـل الـذى تمنـاه، يـوم حاول عـرابى أن يطالب بالدستور. 

وقام بمحاولات متعددة، لم تحقـق لـه الأمـل الـذى تمناه فى فترة الغليان الفكرى التى عاشها بين الثورة العرابيـة وثورة سنة ١٩١٩، وكانت هذه الثورة الأخيرة- ثورة ١٩١٩ بزعامة سعد زغلول- محاولـة أخـرى لم تحقـق لـه الأمل الذى تمناه. وليس صحيحـًا أن ثـورة ٢٣ يوليـو قامـت بسبب النتائج التـى أسـفرت عنهـا حـرب فلسطين، وليس صحيحًا كذلك أنهـا قامـت بسـبب الأسلحة الفاسدة التى راح ضحيتهـا جنـود وضبـاط، وأبعـد مـن ذلـك عـن الصـحـة مـا يقـال بأن السبب كان أزمـة انتخابات نادى ضباط الجيش، إنما الأمـر فى رأيـى كان أبعـد مـن هـذا وأعمـق أغـوارًا. 

ولـو كان ضباط الجيـش حاولـوا أن يثـوروا لأنفسهم؛ لأنـه قـد غـرر بهـم فى فلسطين، أو لأن الأسلحة الفاسدة أرهقت أعصابهـم، أو لأن اعتـداء وقـع عـلى كرامتهـم فى انتخابات نادى ضباط الجيش، لما كان الأمر يستحق أن يكـون ثـورة، ولـكـن أقـرب الأشياء إلى وصفـه أنـه مجـرد تمـرد، حتى وإن كانت الأسباب التى أدت إليـه منصفـة عادلة فى حد ذاتهـا. 

لقـد كـانـت هـذه كلهـا أسـبابًا عارضـة، وربما كان أكـبر تأثير لهـا أنهـا تستحثنا عـلى الإسراع فى طريـق الثـورة، لكننـا كنـا مـن غيرهـا نسير على هذا الطريق. وأنـا أحـاول اليـوم بعـد كـل مـا مـر بى مـن أحـداث، وبعـد سنوات طويلـة مـن بـدء التفكير فى الثورة، أن أعـود بذاكرتى وأتعقـب اليـوم الأول، الذى اكتشفت فيـه بذورهـا فى نفـسى، إن هـذا اليـوم أبعـد فى حيـاتى مـن أيـام شـهر نوفمـبر سـنة ١٩٥١، أيـام ابتـداء أزمـة نـادى الضبـاط، ففـى ذلـك الوقت كان تنظيم الضباط الأحرار قائمًـا يباشر عمله ونشاطه، بـل أنـا لا أغـالى إذا قلت إن أزمة انتخابات النـادى أثارهـا أكـثر مـن أى شىء آخـر فى نشاط الضباط الأحرار، فقـد شـئنا فى ذلك الوقـت أن ندخـل معركـة نجـرب فيهـا قوتنـا عـلى التكتـل وعـلى التنظيـم. 

وهـذا اليـوم- فى حيـاتى أيضـًا أبعـد مـن بـدء فضيحـة الأسلحة الفاسدة، فقـد كان تنظيـم الضبـاط الأحـرار موجـودًا قبلهـا، وكانت منشوراتهم أول نذير بتلك المأساة، وكان نشاطهم وراء الضجـة التـى قامـت حـول الأسـلحة الفاسدة. بل إن هـذا اليـوم فى حياتى أبعـد مـن يـوم ١٦ مايـو سـنة ١٩٤٨، ذلـك اليـوم الـذى كان بدايـة حيـاتى فى حـرب فلسطين، وحـيـن أحـاول، الآن، أن أستعرض تفاصيـل تجاربنـا فى فلسطين أجـد شـيئًا غريبـًا، فـقـد كنـا نـحـارب فى فلسطين، ولـكـن أحلامنـا كلهـا فى مصر، كان رصاصنـا يتجه إلى العـدو الرابـض أمامنا فى خنادقه، ولكـن قلوبنـا كانـت تحـوم حـول وطننـا البعيـد الـذى تركنـاه للذئـاب ترعـاه، وفى فلسطين كانت خلايا الضباط الأحـرار تـدرس وتبحث وتجتمع فى الخنادق والمراكـز. 

فى فلسطين جـاءنى صلاح سالم وزكريا محيى الدين واخترقا الحصـار إلى الفالوجـة، وجلسنا فى الحصـار لا نعـرف لـه نتيجة ولا نهاية، كان حديثنـا الشاغل وطننـا الـذى يتعين أن نحاول إنقاذه، وفى فلسطين جلـس بجـوارى مـرة كـمال الدين حسين، وقال لى وهـو سـاهم الفكـر شـارد النظـرات هـل تعلـم مـاذا قـال لى أحمـد عبـدالعزيـز قبـل أن يمـوت؟ قلـت.. مـاذا قـال؟ قـال كـمال الديـن حسـين وفى صوته نبرة عميقـة وفى عينيـه نظـرة أعمـق: لقـد قـال لى: اسـمع يا كمال، إن ميـدان الجهـاد الأكـبـر هـو فى مـصر.. ولم ألتـق فى فلسطين بالأصدقاء الذين شاركونى فى العمـل مـن أجـل مـصر، وإنما التقيـت أيضـًا بالأفكار التـى أنـارت أمـامى السبيل. وأنـا أذكـر أيـامًا كـنـت أجلس فى الخنادق وأسرح بذهنى إلى مشاكلنا.

كانت الفالوجـة محـاصرة، وكان تركيـز العـدو عليها ضربًا بالمدفـع والطيران تركيــزًا هائلًا مروعـًا، وكثيرًا مـا قلـت لنفسى: «هـا نحـن هنــا فى هذه الجحـور محاصرين، لقـد غـرر بنـا، دفعنا إلى معركة لم نعـدّ لهـا، ولقد لعبت بأقدارنا مطامع ومؤامرات وشهوات، وتركنـا هـنـا تحـت النيران بغير السلاح»، وحين كنـت أصـل إلى هـذا الحـد مـن تفكيرى كنـت أجـد خواطـرى تقفز فجأة عبر ميدان القتال، وعبر الحـدود إلى مصر، وأقـول لنفسى: هـذا هـو وطننـا هـنـاك. إنه «فالوجـة» أخـرى عـلى نطـاق كبير. إن الذى يحـدث لنـا هـنـا صـورة مـن الـذى يحـدث هناك. صـورة مصغـرة. وطننـا هـو الآخـر حاصرتـه المشاكل والأعـداء، وغـرر بـه ودفـع به إلى معركـة لم يُعـدّ لهـا، ولعبـت بأقـداره مطامـع ومؤامرات وشهوات، وتُرك هنـاك تحـت النيران بغير سلاح! وأكـثر مـن هـذا، ولم يكـن الأصدقاء هـم الذين تحدثوا معى عـن مسـتقبل وطننـا فى فلسطين ولم تكـن التجـارب هـى الـتـى قرعـت أفكارنـا بالنذر والاحتمالات عـن مصيره، بل إن الأعـداء أيضـًا لعبـوا دورهم فى تذكيرنا بالوطـن ومشاكله، ومنـذ أشـهر قليلـة، قـرأت مقالات كتبهـا عنـى ضابـط إسرائيلى اسـمه «پردهـان كوهين» ونشرتهـا لـه جريدة «جويشـن أوبزرفر» وفى هذه المقالات روى الضابط اليهودى كيف التقى بى أثناء مباحثات واتصالات عـن الهدنة، وقال: «ولقد كان الموضـوع الـذى يطرقـه جـمال عبـدالناصر معـى هـو كـفـاح إسرائيل ضـد الإنجليـز، وكيـف نظمنـا حـركـة مقاومتنا السرية لهـم فى فلسطين وكيف استطعنا أن نجـد الرأى العام فى العالم وراءنا فى كفاحنـا ضـدهـم».

ثـم إن هـذا اليـوم- اليـوم الـذى اكتشـفـت فيـه بـذور الثـورة فى نفسى- أبعـد مـن حـادث ٤ فبراير سنة ١٩٤٢ الذى كتبت بعـده خطابًا إلى صديـق قـلـت لـه فيـه: «مـا الـعمـل بعـد أن وقعت الواقعـة وقبلناهـا مستسلمين خاضعين خانعين؟» الحقيقة أنى أعتقـد أن الاستعمار يلعـب بورقـة واحـدة فى يده بقصـد التهديـد فقـط، ولكـن لـو أنـه أحـس أن بعـض المصريين ينوون التضحية بدمائهم ويقابلـون القـوة بالقـوة لانسحب كأى امـرأة مـن العاهـرات. 

وطبعـًا هـذا حالـه أو تلـك عادتـه. أمـا نحـن، أمـا الجيـش فقـد كان لهـذا الحـادث تأثير جديـد عـلى الـروح المعنوية، فبعـد أن كنـت تـرى الضبـاط لا يتكلمـون إلا عـن الفسـاد واللهـو أصبحـوا يتكلمـون عـن التضحية والاستعداد لبـذل النفـوس فى سبيل الكرامـة، أصبحـت تراهـم وكلهـم نـدم؛ لأنهـم لم يتدخلـوا مـع ضعفهـم الظاهـر ويـردوا للبـلاد كرامتهـا، ويغسلوها بالدمـاء، ولكـن غـدًا لناظره قريب.. لقـد حـاول بعضهـم بعـد الحـادث أن يعملوا شيئًا بغيـة الانتقام، ولكـن الوقت كان قـد فـات، أمـا القلـوب فكلهـا نـار وأسى.

والواقع أن هذه الحركة.. إن هذه الطعنـة ردت الروح إلى بعـض الأجساد، وعرفتهـم أن هناك كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنهـا، وكان درسـًا قاسيًا. وكذلـك فـإن هذا اليـوم أبعـد فى حيـاتى مـن الفـوران الـذى عشـت فيـه أيـام كـنـت طالبـًا أمـشـى مـع المظاهرات الهاتفـة بعـودة دستور سـنة ١٩٢٣، وقـد عـاد دستور ١٩٢٣ بالفعل فى سنة ١٩٣٥.. وأيـام كنـت أسـعى مع وفـود الطلبـة، إلى بيـوت الزعماء نطلـب منهـم أن يتحـدوا مـن أجـل مـصر، وتألفت الجبهة الوطنية سنة ١٩٣٦ بالفعـل عـلى أثـر هـذه الجهـود وأذكـر أننـى فى فترة الفـوران هـذه كتبت خطابًا إلى صديـق مـن أصدقائى قلـت فيـه، وكان التاريخ ٢ سبتمبر سنة ١٩٣٥: «أخـى.. خاطبـت والـدك يوم ٣٠ أغسطس فى التليفـون وقـد سـألته عنـك فأخبرنى أنـك موجود فى المدرسة.. لذلك عولـت عـلى أن أكتـب إليـك مـا كـنـت سـأكلمك فيـه تليفونيـًا، قـال اللـه تعالى (وأعـدوا لـهـم مـا استطعتم مـن قـوة) فأين تلك القوة التـى نستعد بهـا لهـم؟ إن الموقـف اليـوم دقيـق، ومصر فى موقـف أدق ونحـن نـكــاد نـودع الحياة ونصافـح الموت، فـإن بنـاء اليأس عظيـم الأركان، فأيـن مـن يهـدم هـذا البنـاء؟ ثم مضيت فى هذا الخطاب إلى آخره. 

- وإذن فمتى كان ذلـك اليـوم الـذى اكتشـفـت فيـه بـذور الثـورة فى أعماقـى؟ 

إنـه بعيـد فـإذا أضيف إلى هـذا كـلـه، أن تلك البذور لم تكن كامنة فى أعماقـى وحـدى، وإنمـا وجدتهـا كذلك فى أعماق كثيريـن غـيـرى هـم الآخـرون بدورهـم لا يستطيع الواحـد منهـم أن يتعقـب بدايـة وجودهـا داخـل كيانـه، لاتضـح إذن أن هـذه البذور ولدت فى أعماقنـا حين ولدنا، وأنها كانت أملًا مكبوتًا خلقه فى وجداننـا جـيـل سـبقنا. 

ولقـد اسـتطردت وراء هـذا كلـه لأشرح السبب الأول، الذى مـن أجـلـه وجـدت مـن الصعب علىّ أن أتحدث عن فلسفة الثـورة، وقلت إن هذا الحديث يلزمه أساتذة يتعمقون فى البحـث عـن جذورها الضاربة فى أعماق تاريخ شعبنا. 

أمـا السبب الثانى: فهـو أننـى كنـت بنفسى داخل الدوامـة العنيفـة للثـورة، والذيـن يعيشـون فى أعماق الدوامـة قـد تخفى عليهـم بعـض التفاصيـل البعيدة عنها. وكذلـك كنـت بإيمانى وعقلى وراء كل مـا حـدث، وبنفس الطريقـة التـى حدث بها، وإذن فهل أستطيع أن أتجـرد مـن نـفـسى حين أتكلـم عنـه، وحين أتكلـم عـن المعـانى المستترة وراءه؟ أنـا مـن المؤمنين بأنـه لا شىء يمكن أن يعيـش فى فـراغ.. حتـى الحقيقة لا يمكن أن تعيش فى فراغ.. والحقيقة الكامنة فى أعماقنـا هـى: مـا نتصـوره أنـه الحقيقـة أو بمعنـى أصـح: هـو الحقيقة مضـافة إليه نفوسنا.. نفوسـنـا هـى الـوعـاء الـذى يعيـش فـيـه كـل مـا فينـا وعـلى شـكـل هـذا الوعـاء سوف يتشكل كل مـا يـدخـل فيـه، حتـى الحقائق. 

وأنـا أحـاول بقـدر مـا تستطيع طاقتـى البشريـة أن أمنـع نفـسـى مـن أن تغير كثيرًا مـن شـكل الحقيقة، ولكـن إلى حـد سـوف يلازمنـى التوفيـق؟ هـذا سـؤال.. وبعـده أريـد أن أكـون منصفـًا لنفسى، ومنصفـًا لفلسـفة الثـورة فأتركهـا للتاريخ يجمع شكلها فى نفسى، وشكلها فى نفـوس غيرى، وشكلها فى الحـوادث جميعًا، ويخـرج مـن هـذا كـلـه بالحقيقة كاملـة.

- وإذًا فـمـا الـذى أريد أن أتحدث عنه إذا كنت قد استبعدت كلمة «فلسفة»؟! 

الواقع أن الذى أملكه فى هذا الصدد شيئان: 

أولهما: مشـاعر اتخـذت شكل الأمـل المبهـم، ثـم شـكـل الفكـرة المحـددة، ثـم شـكل التدبير العمـلى، ثـم وضـع التنفيـذ الفعـلى فى منتصـف لـيـل ٢٣ يوليـو حـتـى الآن..

وثانيهما: تجـارب وضعت هذه المشاعر، بأملهـا المبهـم وفكرتهـا المحـددة، وتدبيرهـا العملى، موضع التنفيذ الفعـلى فى منتصـف لـيـل ٢٣ يوليو حتـى الآن.. وعـن هـذه المشاعر والتجـارب أريد أن أتحـدث.. لطالما ألـح عـلى خواطـرى سـؤال هـو «هـل كان يجـب أن نقـوم نحـن- الجيش- بالـذى قمنـا بـه فى ٢٣ يوليو سـنة ١٩٥٢؟». لقـد قلـت منـذ سطور، إن ثـورة ٢٣ يوليـو كـانـت تحقيـقًا لأمـل كبير راود شعب مصر، منـذ بـدأ فى العصر الحديث يفكر أن يكـون حكمـه فى أيـدى أبنائه، وفى أن تكـون لـه الكلمـة العليـا فى تقرير مصيره. 

- لماذا كان تحرك الجيش لتحقيق الثورة حتميًا؟ 

وإذا كان الأمر كذلك، ولم يكـن الـذى حـدث يـوم ٢٣ يوليو تمـردًا عسكريًا، وليس ثـورة شعبية، فلماذا قـُدر للجيـش دون غيره مـن القـوى، أن يحقـق هـذه الثـورة؟ 

ولقـد آمنـت بالجنديـة طـول عمـرى، والجنديـة تجعـل للجيش واجبًـا واحـدًا، هـو أن يمـوت دفاعـًا عـن حـدود وطنـه، فلماذا وجـد جيشـنـا نفسـه مضطـرًا للعمـل فى عاصمـة الوطـن، لا عـلى حـدوده؟ ومـرة أخـرى، دعـونى أنبه إلى أن الهزيمة فى فلسطين، والأسلحة الفاسدة، وأزمـة نـادى الضبـاط.. لم تكـن المنابـع الحقيقيـة التـى تـدفـق منها السيل، لقد كانت كلها عوامل مساعدة على سرعة التدفق، ولكنهـا- كـما سبق أن قلـت- لا يمكـن أبـدًا أن تكون هى الأصل والأساس.

- وإذًا لماذا وقع على الجيش هذا الواجب؟

قلت: إن هذا السؤال طالمـا ألـح عـلى خواطـرى ألح عليهـا ونحـن فى دور الأمل والتفكير والتدبير بعـد ٢٣ يوليو، وألـح عليهـا فى مراحـل كثيرة مـن التجربة بعـد ٢٣ يوليـو، ولـقـد كانـت أمامنـا مبررات مختلفـة قبـل ٢٣ يوليـو تـشرح لنـا، لمـاذا يجـب أن نقـوم بالـذى قمنا به؟

كنـا نقـول: إذا لم يقـم الجيـش بـهـذا العمـل فـمـن يـقـوم بـه؟ وكنـا نقـول: كنـا نحـن الشـبح الـذى يـؤرق بـه الطاغية أحلام الشعب، وقـد آن لهـذا الشـبح أن يتحول إلى الطاغية فيبـدد أحلامـه هـو.. وكنـا نقـول غـيـر هـذا كثيرًا، ولكـن الأهـم مـن كل مـا كنـا نقولـه، أننـا كـنـا نشـعر شعورًا يمتد إلى أعماق وجودنـا بـأن هـذا الواجـب واجبنـا، وأننـا إذا لم نقـم بـه فإننـا نـكـون كأننـا قـد تخلينـا عـن أمانة مقدسـة نيـط بنـا حملها. 

ولكنـى أعـترف أن الصـورة الكاملة لم تتضـح فى خيـالى إلا بعـد فترة طويلـة مـن التجربـة عقـب ٢٣ يوليـو.. وكانـت تفاصيـل هـذه التجربة، هـى بعينهـا تفاصيـل الصـورة.

وأنـا أشـهد أنـه مـرت عـلىّ بعـد يـوم ٢٣ يوليـو نـوبـات اتهمـت فيهـا نفـسى وزملائى وباقـى الجيـش بالحماقـة والجنـون، بسـبب الـذى صنعناه فى ٢٣ يوليـو.

لقـد كنـت أتصـور قبـل ٢٣ يوليـو أن الأمـة كلهـا متحفـزة متأهبة، وأنها لا تنتظـر إلا الطليعـة تقتحم أمامهـا السـور، فتندفع الأمـة وراءهـا صفوفًا متراصـة منتظمة تزحـف زحفًا مقدسًا إلى الهدف الكبير.. وكنت أتصـور دورنـا عـلى دور طليعـة فدائيين، وكنـت أظـن أن دورنـا هـذا لا يستغرق أكثر مـن بضع ساعات، ويأتى بعدهـا الزحـف المقـدس للصفـوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير، بل كان الخيال يشـط بى أحيانًا فيخيـل إلىّ أنى أسـمع صليـل الصـفـوف المتراصـة وأسمع هديـر الوقع الرهيـب لزحفهـا المنظـم إلى الهـدف الكبير، أسـمـع هـذا كـلـه ويبـدو فى سـمعـى مـن فـرط إيمـانى به حقيقة مادية، وليس مجرد تصورات خيـال.

ثم فاجأنى الواقع بعد ٢٣ يوليو..

- الطليعة الثورية والجموع الشعبية:

قامت الطليعة بمهمتها، واقتحمـت سـور الطغيان، وخلعت الطاغية، ووقفت تنتظـر وصـول الزحـف المقـدس للصفـوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير.. وطـال انتظارهـا.. لقد جاءتهـا جـمـوع ليـس لـهـا آخـر.. ولـكـن مـا أبعـد الحقيقـة عـن الخيـال! كانـت الجمـوع التـى جـاءت أشياعًا متفرقـة وفلـولًا متناثرة، وتعطل الزحـف المقـدس إلى الهدف الكبير، وبدت الصـورة يومهـا قاتمة مخيفـة تنذر بالخطر.. وساعتها أحسست وقلبى يملؤه الحـزن وتقطـر منـه المـرارة أن مهمة الطليعـة لم تنته فى هذه الساعة. 

وإنمـا مـن هـذه الساعة بـدأت.. كنا فى حاجة إلى النظام، فلـم نجـد وراءنـا إلا الفـوضى.. كنـا فى حاجة إلى الاتحـاد، فلـم نجـد وراءنـا إلا الخـلاف.. وكنـا فى حاجة إلى العمـل فلـم نجـد وراءنـا إلا الخنوع والتكاسـل.. ومـن هـنـا وليـس مـن أى شىء آخـر، أخـذت الثـورة شعارها الأول «الاتحـاد والنظـام والعمـل».

ولم نكـن عـلى استعداد.. وذهبنـا نلتمـس الـرأى مـن ذوى الـرأى، والخـبـرة مـن أصحابهـا، ومـن سـوء حظنـا لم نعـثر على شىء كثير.. كل رجـل قابلنـاه لم يكـن يهـدف إلا إلى قتـل رجـل آخـر، وكل فكـرة سـمعناها لم تكـن تهـدف إلا إلى هـدم فكـرة أخـرى، ولـو أطعنـا كـل مـا سـمعناه، لقتلنـا جميع الرجال وهدمنا جميع الأفكار، ولما كان لنـا بعدهـا مـا نعملـه إلا أن نجلس بين الأشـلاء والأنقاض ننـدب الحـظ البائس ونلـوم القـدر التعـس.

- أزمة نفسية:

وأعترف بأن هذا الحال كله سبب لى أزمة نفسية كئيبة، ولكن التجارب فيما بعد، وتأمل هذه التجارب واستخلاص معانيها الحقيقية، خففت من وقع الأزمة فى نفسى، وجعلتنى ألتمس لهذا كله أعذارًا من الواقع عثرت عليها حين اتضحت أمامى- إلى حد ما- الصورة الكاملة لحالة الوطن، وأكثر من هذا أعطتنى الجواب عن سؤال، الذى قلت إنه لطالما راودنى، وهو: «هل كان يجب أن نقوم نحن الجيش بالذى قمنا به فى ٢٣ يوليو؟» والجواب: نعم، ولم يكن هناك مهرب أو مفر!

- ثورتان فى وقت واحد:

وأنا الآن أستطيع أن أقول إننا نعيش فى ثورتين وليس فى ثورة واحدة. ولكل شعب من شعوب الأرض ثورتان، ثورة سياسية: يسترد بها حقه فى حكم نفس بنفسه من يد طاغية فُرض عليه، أو من جيش معتد أقام فى أرضه دون رضاه.

وثورة اجتماعية: تتصارع فيها طبقاته، ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد.

من كتاب «وثائق ناصر.. فلسفة الثورة»