رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كامل الشناوى يكتب: مصطفى مشرفة.. عالم فى الذرة والموسيقى

مصطفى مشرفة
مصطفى مشرفة

كنت كلما صافحته أحسست أنى ألمس مجموعة من الأسلاك المكهربة، فلا أكاد أمد إليه يدى حتى تنتابنى رعشة مبهمة لعلها رعشة الإجلال له، أو النفور منه، فقد كان شخصية جليلة، مهيبة، وكان مبعث إجلاله ومهابته تبحره فى علوم لا يدرك قيمتها إلا الأساتذة المتخصصون فى هذه العلوم التى كانت حدثًا جديدًا بالنسبة إلى العصر كله، ولغزًا غامضًا بالنسبة إلى البلاد المختلفة، وقد كان بلدنا واحدًا من هذه البلاد عندما لقيت العالم المصرى الذى اقترن اسمه بعدة أبحاث عن الطاقة الذرية، والنظرية النسبية لأينشتاين.

وأصدر عدة كتب عن «الهندسة الوصفية» و«الميكانيكا العملية والنظرية» و«الهندسة المستوية والفراغية»، و«النظرية النسبية الخاصة» و«الذرة والقنابل الذرية» و«العلم والحياة» وكان أول من دعا إلى وجوب التعاون العالمى لتوجيه العلماء، ونبه إلى وجود معدن اليورانيوم فى مصر.

إن الرجل قد سبق بيئته العلمية المحلية، بكتبه ومحاضراته، وأبحاثه ونظرياته، وهو يشغل منصبًا جامعيًا مرموقًا، وقد اتسم بالجرأة والصراحة وشجاعة الرأى. وهذه صفات تجذبنا إلى احترامه، وهى فى الوقت نفسه تدفعنا إلى النفور منه..

فلم يكن من اليسير على مجتمعنا المفتون بالسذاجة فى الأدب والمعرفة والفن، والسياسة، أن يتجاوب مع عالم يحلق بدراساته وبحوثه فى أعلى الآفاق، وعلى مستوى عالمى، فقد حاضر فى منظمات علمية دولية، واحتل اسمه مكانًا مرموقًا بين علماء الرياضة العالميين، وصارت له نظرية خاصة فى النسبية يتعرض لها أساتذة الجامعات فى أوروبا وأمريكا، بالمناقشة والجدل.. وكان يتبادل الرسائل مع أينشتاين.

هذه العبقرية التى تمارس العلم بأستاذية كبيرة وسلوك شخصى مترفع، كانت إذا اختلطت بالناس، بدت كشهاب هبط إلى الأرض ولم يحترق.. كل من رآه يعجب به، ولا يجرؤ على الدنو منه!

هكذا أحسست، عندما تقابلت معه، لأول مرة، فى دار المرحوم مكرم عبيد، قصير القامة، ممتلئ الجسم فى غير ترهل، تتجلى أناقته فى حركاته، وإشاراته، وكلماته وبذلته، وربطة عنقه، يحسن الحديث ويحسن الإصغاء. يخيل لك أنه يهمس إذا تكلم، ويهمس إذا أصغى! لا يرتفع صوته إلا بقدر ما يصل إلى جاره، ولا يميل بجسمه لكى يسمع، ولكن يرهف أذنيه برشاقة ووقار. وكنت أظن أن هذا العالم الغارق إلى أذنيه فى المراجع الجافة، لا يتذوق الأدب والفن ويثور على الأوضاع السياسية!

وأدهشنى أنه وجه إلى مكرم عبيد ملاحظات هاجم بها الأحزاب كلها، وكان مكرم رئيسًا لحزب الكتلة، بعدما اختلف مع مصطفى النحاس، رئيس حزب الوفد، واضطره هذا الخلاف إلى أن يتعاون مع خصومه بالأمس من أحزاب الأقليات.

قال العالم الجليل لمكرم عبيد: إنه عمل عظيم أن تثور على فساد الحكم، وأن تمضى فى ثورتك إلى أن تدخل السجن، وتضحى بمكانتك فى الحزب الذى أسهمت فى بنائه، وبأصدقائك الذين شاركوك حياتك الحزبية، ولكن ما هو الهدف من هذا الموقف؟ هل الهدف أن تمنع حزبًا من الفساد، لتفسح مجال الفساد لأحزاب أخرى؟ وهل تعتقد أن هذه الأحزاب تستطيع أن تقاوم رغبة من يقف وراءها ليهدم بها حزب الأكثرية، ويتولى هو مقاليد الأمور، فيطغى كما يشاء، وينهب كما يشاء؟!

وقال مكرم: دعونا من الكلام فى السياسة الآن.. فقد اجتمعت بكم الليلة للاحتفال بعيد ميلادى.. وأريد أن أنسى السياسة ليلة واحدة كل عام!

وكان بين المدعوين محامٍ شاب، وأراد أن يحرج العالم الجليل، فسأله من هو الشخص الذى يقف وراء الأحزاب ليجعل منها مخلب قط.. ينهش حزب الأكثرية، ثم يطغى هو، وينهب كما يشاء؟

وقال العالم الجليل بكل هدوء: إنك تعرفه، ولست أخاف من ذكر اسمه، ولكنى لا أريد أن أحرج صديقى مكرم.. وفهم الجميع أنه يعنى الملك، وارتسم الذهول على وجوه الموجودين جميعًا، فقد كان معروفًا أن القصر وقف إلى جانب العالم الكبير أكثر من مرة وسانده ضد حكومات الوفد، وحكومات الأحزاب الأخرى، وقد نال رتبة الباشوية، ولم ينكر العالم هذه الحقائق، ولم يتنكر لها، لكنه حللها بطريقته العلمية، رأى أن القصر لم يناصره إلا ليكيد الوزارات القائمة فى الحكم، ويبدو أمام الشعب فى صورة نصير العلم والعلماء.

لم تمض هذه الليلة من عام ١٩٤٨، حتى أصبح أستاذنا العالم المحلق فى آفاق لا نعرفها قريبًا من نفسى. فقد انطوى حديث السياسة، وأخذنا نستمع للفنان محمد عبدالوهاب وهو يؤدى إحدى أغنياته بالعود.

واتجهت بكل انتباهى واهتمامى إلى هذا العالم الحبيب، لأرى هل يستمتع بالغناء مثلنا!

كان رأسه أشبه بكرة من زئبق، يختلج، ويتوهج، بحرارة وإشعاع، كان كل ما فيه لامعًا، خاتمه، دبوس ربطة العنق، زراير كُمّى القميص، نظارته، ذكاؤه الحاد.

وكان يتابع النغمات بنقرات أصابعه على المقعد، وبضربات خفيفة بأطراف قدميه فوق السجادة. وحسبت أن حركاته لا علاقة لها باللحن.

ولما انتهى عبدالوهاب من الغناء، دنوت من العالم الجهير المهيب الأستاذ الدكتور على مصطفى مشرفة باشا وسألته عن رأيه فى الأغنية التى سمعها فقال: إن الأغانى المصرية تمشى فى طريق التطور!

وعدت أسأله: هل تهوى الموسيقى؟

فقال: أهواها وأدرسها!

- هل عندنا ألحان عالمية؟

قال: عندنا صوت عالمى.. هو صوت أم كلثوم؟

- ولكنك عالم متخصص فى أشياء لا تمت إلى الموسيقى بصلة!

قال «مشرفة» باشا: فى أعماق كل عالم فنان.. هذا إذا صح أنى عالم!

 

وأخذت أتعقب تاريخ حياة هذه العبقرية الفذة. ووجدتنى أعيش فى جو ساحر يثير العجب والدهشة.

فالدكتور على مصطفى مشرفة قد فرض الحديث عنه فى هذه الأيام من «عام ١٩٤٨»، فقد أقام فى مصر أول معرض علمى للطاقة الذرية، ولقى هذا المعرض اهتمامًا من الهيئات العلمية الدولية.

وكان يشغل منصب وكيل جامعة القاهرة، ولم يكن للجامعة مدير، فكان هو مدير الجامعة بالنيابة، ثم دب الخلاف بينه وبين الوزارة، فأقصته عن وكالة الجامعة، وظل محتفظًا بمنصبه عميدًا لكلية العلوم.

لم يكن الدكتور مشرفة يعبأ بأبهة المنصب، ولكنه شعر بمرارة فى إقصائه عن إدارة الجامعة، وعانى شعوره المر فى صمت وكبرياء.

وفى سنة ١٩٥٠ وقع حادث خطير.. لكن قبل أن نصل إلى هذه السنة، يجدر بنا أن نرجع إلى الوراء أكثر من إحدى وخمسين سنة، لنمشى مع حياة مشرفة خطوة خطوة.

 

فى ١١ يوليو من عام ١٨٩٨ تمت ولادة الدكتور على مصطفى مشرفة، وفى عام ١٩١٤ حصل على البكالوريا «علمى» من المدرسة السعيدية، وكان أول الناجحين فى جميع المدارس.

وفى عام ١٩١٧ نال إجازة المعلمين العليا، وسافر فى بعثة إلى إنجلترا، حيث التحق بجامعة نوتنجهام، وتخرج فيها عام ١٩٢٠ بعدما حصل على بكالوريوس العلوم، ثم التحق بالكلية الملكية بلندن، فحصل على دكتوراه الفلسفة فى العلوم عام ١٩٢٣، وفى عام ١٩٢٤ نال الدكتوراه فى العلوم، فكان أصغر عالم حصل على هذه الدكتوراه فى العالم.

اشتغل بالتدريس فى مدرسة المعلمين العليا، وكان أول أستاذ مصرى للرياضة فى كلية العلوم، وظل فى منصبه هذا عشر سنوات، وفى عام ١٩٣٦ أصبح أول عميد مصرى لكلية العلوم، وفى عام ١٩٤٦ عين وكيلًا لجامعة القاهرة، ثم أقصته الحكومة عن هذا المنصب سنة ١٩٤٨ ليظل عميدًا لكلية العلوم.

وللدكتور على مصطفى مشرفة خمسة وعشرون بحثًا فى نظرية «الكم» ونظرية النسبية لأينشتاين والطاقة الذرية. وقد ألف وحده، ومع آخرين ثلاثة عشر كتابًا علميًا، وهو أول عالم مصرى دعته أمريكا رسميًا إلى إلقاء محاضرات الذرة فى جامعة برنستون. وأول عالم مصرى يشترك فى الموسوعة العالمية للشخصيات العلمية، طبعة نيويورك، وطبعة لندن.

وكان عالمًا فى الموسيقى.. فهو أول من قام بدراسة مقارنة للتقريب بين استخدام «الأوكتاف» والمقام بين السلمين الموسيقيين الغربى والشرقى.

وكان رئيسًا لأول جمعية مصرية لهواة الموسيقى والأغانى العالمية، وعضوًا فى المجلس الأعلى لشئون الموسيقى والجمعية المصرية لهواة الموسيقى، واللجنة المصرية لتخليد ذكرى شوبان.

وفى ١٦ يناير من عام ١٩٥٠ وقع الحادث الجلل. احترق الشهاب المشحون علمًا، وذكاء وعبقرية، مات على مصطفى مشرفة، وفى رأسه كثير للعلم، وفى نفسه كثير من الألم. فقد حزّت فى نفسه محاولة إذلاله بإقصائه من منصب وكيل الجامعة، ومنعته كبرياؤه من أن يشكو، وكما عاش حياته العلمية فى هدوء، لفظ آخر أنفاس حياته العادية فى هدوء!