رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرى رحيل الشيخ إمام

 

توفى الشيخ إمام عيسى المطرب الثورى الضرير فى ٧ يونيو عام ١٩٩٥، وانقضى على رحيله سبع وعشرون سنة، لكن ما زالت تتألف حول اسمه وأغانيه فرق شبابية فى تونس والعراق واليمن وغيرها، تجد المادة الملهمة فى إبداعه الغنائى.

تعرفت إلى الشيخ إمام عن طريق أحمد نجم، وكنا نعمل معًا فى دار الأدباء، فى حينه لم يكن نجم قد تعرف بعد إلى الشيخ إمام، وبعد نكسة ١٩٦٧ التقيت نجم فقادنى بفرح وإلحاح إلى «حوش قدم»، الحارة التى كان يسكنها الشيخ إمام، وهو يحثنى بقوله: «لازم تيجى ح تسمع حاجة عجيبة».

حينذاك كان جرح النكسة ينزف فى النفوس من دون توقف، وكنا بحاجة ليس فقط إلى وقف النزيف، بل إلى تطهير الجرح بكلمة صريحة تشير لأسباب الهزيمة لكى لا تتكرر. وكانت أصوات المعارضة قد خمدت تمامًا، بحيث لم يكن مسموعًا لا صوت يسار ولا حتى يمين، ما عدا الأنباء التى كانت تترامى عن غضب الطلاب فى الجامعات. 

دخلنا الحارة الفقيرة، التى تقع ما بين حيى الغورية والباطنية، ومنها إلى بيت فقير تعس، وهناك رأيت الشيخ إمام، قليل الكلام، دائم الابتسام، يحتضن عوده كأنه الأمل الباقى، ويبثه ألحانه وأغنياته كما يهمس العاشق فى أذن محبوبته. غنى الشيخ من كلمات أحمد نجم، وبدفع من نجم، لكل قضايا التحرر، فلسطين، وفيتنام، وثورة إيران، وجيفارا، وتهكم بكل الطغاة وسخر منهم، بدءًا من نيكسون وانتهاء بملوك عرب. 

الشيخ الضرير الذى أصيب بالرمد فى طفولته وفقد بصره بسبب الجهل بالعلاج، قضى طفولته فى حفظ القرآن الكريم فى جمعية شرعية بقرية أبى النمرس بالجيزة، فمن أين له أن يتبنى قضايا التحرر ويلحن «فيتنام عليكوا البشارة»، و«جيفارا مات» وغيرها من أغنيات تنتمى لعالم فكرى آخر؟. 

لكن الواضح أن الشيخ الضرير كان يطوى صدره على مرارة الفقر وفقدان البصر، بل والأحبة، إذ لم يوفقه الله إلى زوجة تتولى شئونه، وكان يلمح من حين لآخر بخجل إلى قصة حب وحيدة أحبطتها الظروف، ربما تكون حياته الشاقة هذه هى التى قادته إلى الثورة.

عام ١٩٧١ التقيت الشيخ إمام مجددًا، لكن هذه المرة داخل معتقل القناطر مع أحمد نجم، وكان مسموحًا لنا بالتجول مدة ساعة حول الزنازين، لكن الشيخ إمام لم يكن يتريض، كان يكتفى بالجلوس وقد فتحوا له باب الزنزانة، يشم الهواء لا أكثر سارحًا شاردًا، يرد على التحايا بابتسامته الخجولة الطيبة.

وكنت ونحن نمر على زنزانته أختلس النظر إليه، وقد منعوا العود عنه، فأشعر بأنه قد حرم من أن يخط ألحانه فى الهواء، وأراه قابعًا فى حزن وصبر مثل طير قصوا جناحيه ولم يعد قادرًا على التحليق.

وخرج الشيخ بعد ذلك من المعتقل وواصل دوره، واختلف هو وأحمد نجم الذى كان بمثابة المحرك القوى للظاهرة الثنائية، ثم بدأ الاهتمام بالشيخ يتناقص مع ظهور الأحزاب المعارضة، لكن بقيت ألحانه وصلابته داخل المعتقلات، وسيظل اسمه فى الثقافة المصرية مقترنًا بأنه كان صوتًا حينما لم يكن هناك صوت، وكان غنوة حينما لم تكن هناك نغمة، وكان أملًا حينما عدمنا الأمل.

تبقى يا شيخ إمام وتبقى أعمالك وصوتك الغاضب النبرة فى الثقافة والفن، أما العود الذى حرموك منه فى الزنازين فإنه يعلو بصوته، ويرتفع بالأغانى والأمل، ويحلق روحًا ثائرة هنا وهناك.